يأتي نشر التقرير لمناسبة الذكرى الـ 76 لنشوء الكيان العبري، وهو يشير إلى أن عدد سكان هذا الكيان تضاعف 12 مرة منذ العام 1948 حتى يومنا هذا، ليقترب من 10 ملايين نسمة. واللافت للإنتباه في التقرير أنه يتحدث عن زيادة عدد السكان بنسبة 189 ألفاً (بينهم 37 ألف مهاجر جديد) خلال العام 2023 متجاهلاً الوقائع التي تحدث عنها الإعلام العبري، وأبرزها هجرة مئات الآلاف من إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ما هي أهمية طرح هذه الأرقام؟
في كانون الأول/ديسمبر 2022، وخلال مقابلة مع عالم النفس والمؤلف الكندي جوردن بيترسون، ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّه مع بداية القرن العشرين كانت أرض فلسطين قاحلة خالية من السكان، وأنَّ الصهاينة قاموا بتطويرها، مما شجَّع العرب على القدوم إليها والإقامة فيها.
وقتذاك، أثارت ادعاءات نتنياهو موجة من الجدالات والانتقادات، ولكن ندر أن تطرق أي تحليل أو رد إلى قضية الكثافة السكانية في فلسطين، كما كانت قبل مائة سنة (أي حوالي 26 شخصًا في كل كيلومتر مربع واحد) وكانت تلك الكثافة تساوي حوالي أربع مرات الكثافة السكانية في الولايات المتحدة (7.7)، وحوالي مرتين الكثافة في أوروبا (13.5).
هذا المثال البسيط يُسلّط الضوء على أهمية المؤشرات والأرقام في سياق محاولة إظهار جوانب مخفية في فهمنا للحقائق وتقييمنا للأمور، فالأرقام أهم من العواطف والكلمات المنمقة أو المنقحة، أما الخطابات الشعبوية فلا تُغني ولا تُسمن من جوع.
وإذا أردنا دراسة مستقبل الكيان الصهيوني، قد نرتكز إلى التاريخ أو التحليلات السياسية.. وربما يلجأ كثيرون منا إلى انحيازاتهم المسبقة، فنختار مقتطفات من هنا أو هناك لكي نبني تحليلاتنا واستنتاجاتنا، ونتناسى الكثير من الوقائع. ولكن بقراءة سريعة لمؤشر الكثافة السكانية لهذا الكيان، نجد أنه تجاوز حالياً الـ425 فردًا في الكيلومتر المربع الواحد، مقارنة بـ37 في الولايات المتحدة، و34 في أوروبا. ما يجعله من ضمن الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة، وبشكل يُثير الشك في إمكانية استدامة وجوده.
بما أنَّ مستقبل إسرائيل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكثافة السكانية، هل من الممكن أن يستوعب البعض أن الأراضي المجاورة لإسرائيل ستكون دائماً عرضة للتوسع الإسرائيلي لأسباب وجودية، بخاصة إذا كان الهدف ايجاد وطن واحد لليهود في شتى أنحاء العالم؟ وهل نستطيع أن نستوعب أن السلام مع هذا الكيان قد يُفسح له المجال للاستقرار والاستمرار ببناء قوته الإقتصادية والعسكرية
والملاحظ أن معظم سكان الكيان الصهيوني يعيشون حياة تشبه حياة الغربيين من حيث السكن والرفاهية ونوعية الحياة، ولكن بكثافة مرتفعة تشبه كثافة دول الشرق، حيث توجد نسبة كبيرة من السكان تعيش تحت خط الفقر. وللمقارنة فقط، نشير إلى أنَّ الكثافة السكانية في الصين تبلغ حوالي 150 فردًا في كل كلم2، وهي أقل بثلاث مرات من إسرائيل.
ما هي أهم الأسئلة والاستنتاجات؟
من ناحية الاستدامة المرتبطة بالموارد الطبيعية كالماء، المساحات، الطاقة، والنفايات، فقد تجاوزت الكثافة السكانية في إسرائيل أكثر من عشر مرات الكثافة السكانية في الدول الغربية، مما يشكل تحديًا كبيرًا على الدولة لتأمين الموارد الضرورية، ومنها المياه.
أما من الناحية الاقتصادية، وإذا نجح هذا النظام في التركيز على بناء المستوطنات بشكل عامودي، وتطوير البنية التحتية لحل أزمة الحركة المرورية المرتبطة بالكثافة، وإدارة الموارد الطبيعية بشكل فعّال، وإيجاد حلول للقطاعات الخدماتية والصحية والتعليمية المجانية في ظل التكاثر السكاني، والسعي لتحقيق الاستقرار السياسي لحل الأزمات الكثيرة، بما في ذلك نسبة الفقر التي تخطت الـ20%، فضلاً عن إيجاد حل للنزاع مع الفلسطينيين، وهو الأمر الذي أدى إلى هجرة كبيرة من إسرائيل لأسباب أمنية ونفسية، قد يتمكن هذا الكيان من المضي قدمًا إذا تمكن من الحد من النمو السكاني.
حتى ٧ أكتوبر/تشرين الأول، كانت نسبتا الولادة والنمو السكاني (جراء الهجرة) إلى إسرائيل مرتفعتين جداً. لذلك نرى أن هذا الكيان يواجه معضلتين:
الأولى؛ تتمثل بوقف الهجرة اليهودية، أقله إلى حين انتظام الأمور داخلياً، وحل مشكلة النزاع مع العرب. لكن ذلك قد يُوجّه ضربة كبيرة لفكرة الكيان الصهيوني بحد ذاته، وهو إنشاء دولة لكل اليهود. ومن المفيد الإشارة إلى أن الاندماج الكلي للأجيال اليهودية الجديدة في مواطنها الحالية يجعلها تتردد بالهجرة إلى إسرائيل..
الثانية؛ تتمثل بالسعي للتوسع وإيجاد موارد طبيعية جديدة، ولا سيما إذا قرّر عدد كبير من اليهود غير الإسرائيليين الهجرة إلى إسرائيل، الأمر الذي قد يُجبر إسرائيل على مواصلة الاستيلاء على الأراضي المجاورة، ليس فقط في الضفة الغربية أو إعادة إحتلال أجزاء من غزة، بل ربما التوسع نحو الأردن، سوريا، لبنان، وربما سيناء المصرية، مما سيُقوّض عملية السلام المبنية على فكرة حل النزاع العربي الإسرائيلي المذكورة في المعضلة الأولى، ويؤجج الإستقطابات الداخلية، وبالتالي يتسبب من جديد بهجرة الإسرائيليين الذين يبحثون عن الأمن لعائلاتهم خارج الكيان.
كل هذه المعضلات تُشكّل تحديًا كبيرًا للصهيونية، حيث يتعين عليها إما أن تستمر في سياستها التوسعية وصراعها مع الفلسطينيين والدول المجاورة، ما يؤدي إلى الهجرة وفشل المشروع نهائيًا، أو أن تتوقف عن استقبال اليهود على أرضها، ما يؤدي إلى تهاوي فكرة الدولة اليهودية.
وبما أنَّ مستقبل إسرائيل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكثافة السكانية، هل من الممكن أن يستوعب البعض أن الأراضي المجاورة لإسرائيل ستكون دائماً عرضة للتوسع الإسرائيلي لأسباب وجودية، بخاصة إذا كان الهدف ايجاد وطن واحد لليهود في شتى أنحاء العالم؟ وهل نستطيع أن نستوعب أن السلام مع هذا الكيان قد يُفسح له المجال للاستقرار والاستمرار ببناء قوته الإقتصادية والعسكرية، بحيث يستطيع خوض حروب جديدة والتمدد أكثر فأكثر، وربما تحقيق أمنية اليمين الصهيوني بالحدود التوراتية بوصفها الحل لمعضلة الزيادة السكانية؟ وهل يُمكن أن نخلص إلى أن فكرة الدول العرقية أو الدينية المحصورة بمساحة ضيقة، أو كاستنساخ لفكرة إسرائيل بدواعٍ مشابهة، تؤدي إلى ارتفاع خطير في الكثافة السكانية، ينتج عنها أزمات مختلفة في إدارة الموارد والإقتصاد، قد تنفجر بوجهها بسرعة؟ وهل يمكن أن نستنتج أنّ الإنسانية بحاجة دائمًا لمشاركة هذا الكوكب، بدلًا من الانزواء فكريًا وجسديًا بمساحات عرقية ودينية ضيقة؟