العسكر والسياسيون من ليبيا إلى سوريا.. من يُفاوض من؟

تشكّل أخيراً "جسمُ حكم" في ليبيا تحت ظلّ الأمم المتحدة، مهمّته إدارة مرحلة انتقاليّة حتّى اجراء انتخابات عامّة في غضون 18 شهراً وإعادة توحيد البلاد المنقسمة إلى ثلاثة أجزاء. وقد يُعطي هذا الخبر بعض الأمل لليبيين أنّ بلدهم سلك مسار "الحلّ السياسيّ". بل أيضاً للسوريّين أنّ زمن "الحلّ" قد اقترب بالنسبة إليهم أيضاً، بخاصّة أنّ الصراع في سوريا وعليها تزامن في انطلاقته وفي مساره مع ذلك الليبيّ؛ بل وتماثل معه في بعض النواحي.

لا يبدو أنّ أحداً من اللاعبين الليبيين الذين يقودون الأطراف المتنازعة مستعدٌّ للاستقالة من منصبه، ولا تلتفت الأنظار كثيراً إلى الاجتماعات التي تعقدها لجنة عسكريّة 5+5 أيضاً برعاية الأمم المتحدة ولجنة متابعة دوليّة، ليس فيها بالمناسبة جميع الدول الأساسيّة المنخرطة في الصراع المسلّح، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار وتفكيك الميليشيات ورحيل المقاتلين الأجانب، وأغلبهم من السوريين على طرفي الصراع، وكذلك تشكيل قوّة أمنيّة تحمي مقرّ المجلس الرئاسي المشترك الذي سيتموضع في مدينة سيرت، في منتصف البلاد، رمز وحدتها القديم، وعاصمة معمر القذافي السابقة. في حين أعلن ممثلو مقاتلي قبائل “التوبو” الجنوبيّون أنّهم قد استُثنوا من هذا المسار.

ليس واضحاً إن كان مسار الحلّ السياسيّ الليبي هذا سيذهب إلى نهاياته، بخاصّة وأنّه تشكّل خلال فترة الإدارة الأمريكيّة السابقة وأنّ المقاتلين الأجانب والسلاح ما زالوا يتدفّقون على البلاد بدل العكس وأنّ المطامع في ثرواته النفطيّة كبيرة، وهي أكثر من “سمكٍ في البحر” كما غاز شرق المتوسّط.

لكنّ الأمل قد خَرَج من الجرّة في ليبيا ويبدو أنّ بعضاً منه قد جال لدى السوريين برغم الإحباط القائم من جولة المحادثات الأخيرة للجنة الدستوريّة في جنيف والتشنّج الذي يخلقه موعد الانتخابات الرئاسيّة القريب. تشنّجٌ يتّضح مع الهياج القائم في صفحات التواصل الاجتماعيّ والطروحات العبثيّة التي تبرز من خلاله.

إلاّ أنّ التساؤل مشروع عمّا إذا كان ممكناً أن يأخذ “الحلّ السياسيّ” في سوريا مساراً مشابهاً لذلك في ليبيا؟

في سوريا أيضاً البلاد مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، تدعم كلّ واحد منها دولٌ تتصارع. ولكنّها لا تقوم على بحرٍ من الثروات الطبيعيّة، وهي تفقد اليوم حتّى موارد معيشتها الأساسيّة في كلّ أنحائها بانتظار كارثة إنسانيّة أكبر. ربّما هي المحفِّز الأكبر لإيجاد حلّ لسوريا قبل فوضى لا يمكن ضبطها. لم يجُع الليبيّون برغم الحرب، بل ما زال 40% ممّن يعملون فيها.. هم من العمّال الأجانب.

***

تكمن أهميّة سوريا في أنّها متجاورة مع القوى الثلاث المهيمنة في المنطقة: تركيا وإيران وإسرائيل، وفي أنّ ما سينتج عن أزمتها سيحدّد مواقعهم المستقبليّة.. هم. وأنّ مصيرها يرتبط بذلك للعراق ولبنان، وكلاهما غارقان في أزمات طويلة الأمد. ولا يختلف الليبيّون كثيراً على نواحي الهويّة والإيديولوجيّة وصيغة الدولة، في حين أنّ هوّة الهويّات أكثر اتساعاً بين المناطق السوريّة الثلاث. وترسّخت أكثر مع سني الصراع العشر.

ما يجب أن يلفت الانتباه في المسار السياسي السوري القائم اليوم هو أنّه لا يرتبط بواقع التقسيم الحالي للبلاد، وما زال يعتمد على واقع مرحلة ماضية من الصراع. فـ”قوّات سوريّا الديموقراطيّة” (قسد) التي تهيمن على الشمال الشرقي ليست طرفاً فيه، ولا “جبهة فتح الشام” التي تهيمن مع تركيّا على الشمال الغربي. وليس واضحاً إن أتى اختراقٌ سياسيٌّ في جنيف كيف سيُمكن تطبيقه على هاتين المنطقتين. هكذا تبدو الأمور وكأنّ التفاوض هو فقط حول من يحكم دمشق مستقبلاً، في حين لا شيء يدلّ على نهاية التقسيم إذا حدث تغيير ولا على قدرة “هيئة الحكم الانتقالية” المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الشهير 2254 على التعامل مع الأوضاع الحاليّة. وفي حين أنّ التفاوض الحقيقيّ هو بين القوى العسكريّة، التي لها الكلمة ومن يقف وراءها في المناطق الثلاث، وليس القوى السياسيّة.

من يبدو يستعدّ لتفاوضٍ من نوعٍ آخر، انطلاقاً من القوى المقاتلة، هو “أبو محمدّ الجولاني” الذي لبس بذلةً مدنيّة لمقابلة صحفيّ أمريكيّ، في حين تصنّفه الولايات المتحدة على أنّه إرهابيّ عالميّ. لكن من الصعب تصوّر تفاوض عسكريّ يقود إلى حلّ سياسيّ مع “فتح الشام”، لا مع طرف السلطة – العسكريّة – القائمة في دمشق ولا أكثر مع “قسد”. في حين تبدو نافذة التفاوض الكامنة والتي يمكن أن يدفع إليها “المجتمع الدوليّ” إذا كان جادّاً في الحفاظ على وحدة الأراضي السوريّة.. هي بين سلطة دمشق و”قسد”.

لم يسل الدمُ كثيراً بين الطرفين، وهمّا الإثنان يعانيان اليوم من “الدولة الإسلاميّة” وعودة نشاطها بشكلٍ كبير. فهي لم تنتهِ كما كان الرئيس دونالد ترامب قد أعلن ذلك، وها هي تعيد إرهابها إلى العراق. وهي بالتحديد تستفيد من خلافاتهما كي تقوّي نشاطها. كما يتشارك الطرفان التواجد العسكريّ والإداريّ في بعض المناطق على هذا الطرف أو ذاك. ويتفاوضان دوماً، مباشرةً أو عبر روسيا. كما حدث مؤخراً من خلال الحصار على الحسكة والقامشلي وفي المقابل على الشيخ مسكين. ويعرفان جيدّاً أنّ كلاهما محتاجٌ إلى الآخر اقتصاديّاً. كذلك يعانيان كلاهما من قدرتهما على ضبط الفصائل المقاتلة إلى طرفهما، برغم قوّتهما النسبيّة. إلاّ أنّ القائمين على هذين الطرفين صعبا المراس ويتشابهان من حيث التكوين الحزبي و”العصبيّاتي”.

إقرأ على موقع 180  ضجيج التاريخ.. وصمت الجغرافيا

إذا ما تمّ تصميم تفاوضٍ بين هذين الطرفين، أو حتّى مع الطرف الثالث، برغم صعوبة تصوّر أن تجلس تركيا على الطاولة مع “قسد” في مرحلة أولى، فإنّ هذا التفاوض سيكون بين العسكريين بالدرجة الأولى كي يكون حقيقيّاً. ما يعني تفاوضاً عسكريّاً أمنيّاً ذي أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. ولكيّ يحظى هذا التفاوض بحظوظٍ في النجاح والذهاب إلى حلّ يجب أن يتطّعم بشكلٍ قويّ بعناصر عسكريّة لها نفوذ يعترف الطرفان بمصداقيّتها وحياديّتها، وكذلك بشخصيّات سياسيّة غير عسكريّة بذات الصفات تضمن أن يتجّه المسار في النهاية نحو منظومة حكم سياسيّة، وليس حكماً عسكريّاً على بلاد موحّدة بدل سلطات عسكريّة على أجزاء مقسّمة كما هو الحال الآن.

في تصوّرٍ كهذا للتفاوض، لن يتمّ التوصّل سريعاً إلى حلولٍ مستدامة. ولكن يُمكن تخيّل الكثير من الخطوات التي من شأنها أن تُغيّر التدهور والتقسيم الحاليين. ويُمكن البناء على أنّ حلولاً بين طرفين ستحفّز الأطراف الثالثة للانخراط، كما حدث سابقاً عند طرح المبعوث الأمميّ خطوة وقف الصراع في حلب قبل أن يُفشِلها.. هو. مثال ذلك، تخفيف معاناة المواطنين على كافّة أطراف الصراع عبر فتح المعابر بينها برعايّة بالضبط من روسيا والولايات المتحدة سويّة وضمان مرور ليس فقط المساعدات بل كافّة المنتجات والأشخاص. بحيث تتقلّص إيرادات “أمراء الحرب” والميليشيات التي تقوم على التهريب.. ضمن الأراضي السوريّة.

عدا ذلك، ستطلق السلطة في سوريا بعض المعتقلين وتحسّن بعض الشيء الأحوال المعيشيّة لتمرير الانتخابات الرئاسيّة. وستستمرّ السلطة في الشمال الشرقي في محاولة فرض هيمنتها على مدن رئيسة في ظلّ تهديدات تركيّة بالاجتياح. ويستمرّ الجولانيّ في تبييض ملامحه.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  المسيحيون العرب في صلب الملحمة الفلسطينية