

لم تقتصر الأثمان التي دفعها “محور المقاومة” على فصائله، سواء في فلسطين أم في لبنان واليمن، بل ثمة حاضنة شعبية كانت الأكثر تحملاً للكلفة البشرية والمادية لهذه الحرب غير المسبوقة في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. من هنا يؤمل، بعد إتمام صفقة تبادل الأسرى بمراحلها كافة، أن تمضي حركة حماس نحو إجراء مراجعة نقدية لهذا المسار الذي انطلقت شرارته في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأن تُكاشف الرأي العام الغزّي، بخلفية قرارها في إطلاق شرارة “الطوفان”، في هذا التوقيت بالذات (7 أكتوبر)، ليس من باب تحميلها المسؤولية وانما إشراكاً منها للحاضنة الشعبية، التي لعبت دوراً مهماً واستراتيجياً من خلال صمودها، طوال أشهر الحرب. يسري ذلك على حزب الله تحديداً الذي دفعت حاضنته ثمناً كبيراً، شهداء وجرحى ومعوقين، فضلاً عن تدمير عشرات القرى في الجنوب والبقاع، ناهيك بالضاحية الجنوبية وأحياء في العاصمة بيروت وغيرها في مناطق لبنانية عدة.
ولأنّ المقاومة العسكرية – كما تُعلّمنا تجارب الشعوب وحركات التحرر – تتكىء دوماً على صلابة جمهورها وإرداته وصموده، وهي دوماً شريكة في أي نصرٍ تُحقّقه هذه المقاومات، فإنّ تضحياتها هي جزء أساسي من حصيلة أية معركة. لذلك، يجب أن تشرع حماس وحزب الله وسائر حركات “محور المقاومة” في المنطقة، في مراجعة ذاتية تطال أسلوب عملها ومنهجيتها وتحالفاتها وساحاتها، لتحديد مكامن الخلل والانكشاف الأمني والمعلوماتي، وكيفية ردم الهوة مع العدو في المجال الأمني-التكنولوجي، بعد أن تبيّن البون الشاسع في هذا المجال، في القدرات والموارد من جهة، وأن إسرائيل لا تقاتل وحدها بل معها كل تقنيات وأسلحة الغرب من جهة ثانية، من دون إغفال ما تم تسجيله من خروق على صعيد العملاء (ألقي القبض على أكثر من ألف شبكة من العملاء في لبنان والضفة وغزة خلال خمسة عشر شهراً).
إنّ هذه المراجعات الذاتية مطلوبة دوماً من كل حزب أو تيار سياسي، فكيف بظروف سياسية وعسكرية صعبة تمر فيها المنطقة، تكاد تكون هي الأصعب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا سيما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واستمرار بنيامين نتيناهو على رأس حكومة هي الأكثر تطرفاً منذ تأسيس الكيان.
تغير الجغرافيا السياسية
حصل أنّ ظروف الحرب الإسرائيلية على المنطقة، قد أتاحت الوقت المناسب للكيان الإسرائيلي للشروع في عملية تصفية واغتيال أبرز القادة المؤثرين في كلا التنظيمين. من جهة حماس، خسرت الحركة قادة مناضلين أمثال يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية ومروان عيسى، إضافةً إلى قيادات عسكرية وميدانية أخرى. أما حزب الله فقد خسر أمينه العام، الشهيد السيد حسن نصرالله وخليفته الشهيد السيد هاشم صفي الدين، ونخبة من قيادات الصفين الأول والثاني (بينهم أعضاء في المجلس الجهادي وقيادة “فرقة الرضوان”).
مسيرة المقاومة وسيرورتها، علّمتنا أنّ المقاومة ولاّدة، مهما كانت الراية التي يحملها المقاومون، سواء أكانت دينية أم قومية أم يسارية، وأن الاحتلال والظلم يستوجبان المقاومة، مهما كانت طبيعتها أيضاً. ولعل البداية من المراجعة ثم المراجعة ثم المراجعة
ومن ضمن الخسارات الإستراتيجية لهذا “المحور”، كانت خسارة الساحة السورية، مع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، والتي كانت تُعد ساحةً أساسيةً لدول وأطراف “المحور”، لتخزين وإيصال الأسلحة، إلى حزب الله في لبنان بشكل أساسي، وباقي فصائل المقاومة.
ومن غير المعروف كيف ستتمكن فصائل المقاومة من تجاوز هذه الخسارات وإعادة ترميم قدراتها. في حالة حزب الله، فإنّ معوقات كثيرة تواجهه ليس أقلّها رفض إسرائيل الإنسحاب من خمس تلال تقع ضمن الأراضي اللبنانية وبالتالي تنصلها من الموعد المحدد (18 شباط/فبراير 2025) للانسحاب من جنوب لبنان، واستمرار الخروق الجوية والبرية والبحرية بما في ذلك تنفيذ اغتيالات في الجنوب، وقطع شريان الدعم الأساسي (سوريا)، وفرض مراقبة أممية لمعابر لبنان البرية والبحرية والجوية، زدْ على ذلك متغيرات سياسية داخلية متسارعة كان البارز فيها وصول العماد جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية ونواف سلام إلى رئاسة الحكومة. هذا لجهة الحزب، أما من جهة حماس، فإنّ الخسائر التي لحقت بهيكلها السياسي والعسكري والتنظيمي، والتدمير الهائل الذي لحق بقطاع غزة، وحجم التضحيات المهول من المدنيين، وكلفة إعادة الإعمار، تُشكّل أبرز التحديات على الساحة الفلسطينية هذا مع عدم وصول ركني الإنقسام: فتح وحماس لاتفاق بينهما حول مستقبل حكم قطاع غزة، ورفض إسرائيل أن تحكم أي جهة فلسطينية غزّة.
المقاومة.. أي مستقبل؟
مرّ الصراع العربي-الإسرائيلي، بمراحل عدّة كان في كل حقبة منها، تتغير طبيعة القوى المقاومة وبرنامجها الإيديولوجي ورؤيتها السياسية. يمكن تلخيص هذه الحقبات كما يلي:
- الحقبة الأولى: 1948-1967: وهي المرحلة التي شهدت قتال الجيوش الرسمية العربية من خلال مشاركتها في ثلاثة حروب، انتهت جميعها إلى خسارات وانتكاسات.
- الحقبة الثانية: حقبة ما بعد نكسة العام 1967. ولدّت النكسة خيبة عامة من النظام الرسمي العربي، فاندفعت قوى وأحزاب قومية ويسارية عدّة، نحو الكفاح المسلّح، كان أبرزها حركة فتح إلى جانب قوى يسارية ووطنية أخرى.
- الحقبة الثالثة: حقبة ما بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 والتي أفضت إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتدشين مرحلة جديدة في تاريخ العمل الوطني الفلسطيني ومعها مرحلة جديدة في تاريخ المقاومة اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي.
- الحقبة الرابعة: حقبة تسعينيات القرن الماضي، وتميزت بتخلي حركة فتح عن الكفاح المسلح ودخولها منظومة أوسلو، وازامنت مع انهيار المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي السابق. هذا الواقع سبقه اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتقدم الإسلام السياسي الفلسطيني (ولادة حماس في العام 1987) وقبلها شهدنا الإعلان الرسمي عن ولادة حزب الله في العام 1985).
وفي ضوء المتغيرات الهائلة التي حصلت في المنطقة، خلال العامين الماضيين، وخسارة المقاومات الشعبية، الكثير من قوتها وقادتها. فإنّ مستقبل المنطقة والتحديات المُحدقة يتطلبان رسم استراتيجية مقاومة جديدة وبخاصةً مع بروز تحديات جسام، تبدأ بإعادة إعمار غزة والعديد من مناطق لبنان ولا تنتهي بمحاولة ترامب تهجير الفلسطينيين، إلى مصر والأردن (وربما السعودية ولبنان وسوريا)، في محاولة لخلق وقائع “ترانسفير” جديد في المنطقة واستكمال “اتفاقات إبراهام” لتشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى. فهل تخضع المقاومات في الفترة المقبلة لعملية تطويع في البنى السياسية القائمة أم تبادر إلى عملية تطوير لنفسها وأدائها وقدراتها؟
قد تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة، إلا أنّ مسيرة المقاومة وسيرورتها، علّمتنا أنّ المقاومة ولاّدة، مهما كانت الراية التي يحملها المقاومون، سواء أكانت دينية أم قومية أم يسارية، وأن الاحتلال والظلم يستوجبان المقاومة، مهما كانت طبيعتها أيضاً. ولعل البداية من المراجعة ثم المراجعة ثم المراجعة.
(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة بعنوان: حماس/ الحزب، “المحور” و”الطوفان”