لمن نُهدي نصرَ غزة؟

ترددت كثيراً قبل أن أسمح لنفسي باستهلال مقالتي بعنوان: لمن نهدي نصر غزة؛ فكيف لي ان أبادر للإهداء وأنا لست غزاوياً ولا فلسطينياً، ولم أكن عضواً في حركة (حماس) أو (الجهاد الإسلامي) أو في ايّ من التشكيلات السياسية لهذه الحركات الجهادية؟

ساءلتُ نفسي أيضاً، هل أنا جديرٌ بإهداء حدث تاريخي ستمتد آثاره من الأطفال الرُضع إلى الشيوخ المعمرين، لأجيال وأجيال؟

لكن هاتفاً هتف لي قائلاً: هَيْتَ لكْ، فأنت منهم وهم منك.

وتذكرت ما قاله لي الشهيد القائد إسماعيل هنية حين هاتفني وانا في المستشفى في بيروت يوم عودتي جريحاً من غزة. حين أقسم بدمائي التي امتزجت بدماء الغزيين، أن غزة ستنتصر.

كان يقسم ويتعهد وأنا صامت ودموعي تحرق خدودي.

كان ذلك، وللمصادفة الطيبة بحضور المغفور له الرئيس سليم الحص الذي كان يعودني في المستشفى، وكانت آنذاك مكالمة وجدانية بين ضمير لبنان وضمير فلسطين.

حديث النصر هو حديث النتائج، حديث الصبر والايمان والاثمان الباهظة والدماء والدموع. وحديث الهزيمة هو حديث الخيبة وتعداد الخسائر والانطفاء في الزوايا المظلمة. وطالما لا يزال الصراع مفتوحاً برأينا ورأي عدونا، فلنقل إن كل من يقيِّم هذا الحدث اليوم ستجيبه الأيام القادمة.

ولطالما اعتبرت نفسي من أصحاب النصر، أقول إن صمود غزة هو أمثولة تدرّس في مراكز الأبحاث السياسية والاجتماعية، وسيكون مادة تربية الأجيال في البيوت والمدارس والجامعات، وقصائد الشعراء، وروايا ت الروائيين.

وقد فجّرتْ ملحمة غزة كوامن الإبداع في أحرار هذه الأمة، حيث أصبحت غزة ملهمة كل عربي مبدع، ملتزم بفكر أمته ونضالها. ومن مبدعي عظمة هذه الملحمة الشاعر عمر شبلي حيث يقول:

سلاماً، غزة الشهداء إنّا أمامكِ ننحني حتى السجودِ

وحقُّ ثراكِ أن نمشي حفاةً لأنّ ثراكِ من جسد الشهيدِ

هذا الكلام ليس خطاباً على منبر، بقدر ما هو رسالة إلى كل صاحب بصر وبصيرة. وسيحدد نصر غزة اليوم مآل حركة التحرر في الوطن العربي لعدة عقود، لأنه باعتقادي سيكون فاتحة عهد جديد من الصراع بين الهيمنة الغربية – الصهيونية وبين أحرار الأمة، وهو، ليس إنهاءً لجمرة الصراع من أجل التحرر الذي تنزع اليه الشعوب والأمم، وأمتنا العربية هي من ضمنها وفي طليعتها. تؤكد هذه المقولة مئة سنة ونيّف على الأقل من هذه المعركة الدائرة بين أمتنا والاحتلال.

قلتُ للمحقق الصهيوني في ميناء أشدود يوم أسري: مضت ستون سنة على الصراع بيننا وبينكم وهناك ستون سنة قادمة. صمت، ثم تنهد وقال: هذا صراع لا ينتهي بيننا إلا بحرب عالمية ثالثة.

قبل “طوفان الأقصى”، وعلى مدى عقدين من الزمن، وفي عملية ممتدة كانت المواكب البرية القادمة من افريقيا والهند وتحديداً من على ضريح الزعيم جواهر لال نهرو تلتقي بتلك المواكب البرية القادمة من الهند عبر تركيا فسوريا فغزة، في عملية تلاحم بين أبناء ثلاث قارات رأوا الحق فانتصروا به. كانت هذه القوافل تأتي بالمعونات وتعود بالمعنويات

تقضي الحكمة السياسية في الحروب أن تسمع ما يقوله عدوّك من تقييم لمعركته، وهذا باعتقادي أكثر فائدة على صعيد المنطق والرؤية الصحيحة وتوظيف النتائج واستخلاص الدروس.

تلوح في الأفق نتائج حرب غزة القريبة والمباشرة على الكيان، كما تلوح أيضاً النتائج البعيدة المؤثرة في طبيعته ودوره ووظيفته، وهي بالطبع سلبية إلى حدود بعيدة. هذا التصور لا يدخل في خانة التعويض عن الخسائر، ولا هو من باب الرغبات، بل هو مستقى من حديث المجتمع الصهيوني بمستوياته السياسية ونخبه الفكرية وصولاً إلى العامة عندهم، بقلقهم على المصير والوجود، من خلال معاناتهم اليومية وعلى غير صعيد.

في ظل موازين القوى العاملة في الميدان، وفي ظل الدعم “الأممي” للعدوان صمدت غزة، كما صمد الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وها هو العدو يستهدف الضفة الغربية وباقي الحواضر الفلسطينية ثأراً من هزيمته البادية عياناً من جهة، وتعمية على نتائج حربه العدوانية الخائبة من منظوره من جهة أخرى.

وبذلك يكون عدم تحقيق العناوين الكبرى المعلنة للعدوان على غزة هو هزيمة استراتيجية بكل المقاييس التي تحدث عنها قادة الكيان في الأيام الأخيرة، بكل حرف وكلمة وجملة.

مساحة غزة لا تساوي إحدى أصغر محافظات لبنان، وبرغم ذلك خارت قوى العدوان على مداخلها، مما اضطره لعملية تبادل أسرى مهينة لجيشه ومجتمعه. لجأوا إلى التوراة والعهد القديم يستحضرونه في الضفة الغربية فإذا به اليوم صراع بين ما يسمى شعب الله المختار ورجال الله في الميدان. لم يعد أمامهم سوى أحلام “رجل السلام” شارون الذي صرح انه يتمنى ان يستفيق ويرى غزة قد ابتلعها البحر.

ولم يعد امامهم سوى أوهام الأوكراني سموتريتش الذي يدعو إلى طرد أهل الضفة الغربية من قراهم وبيوتهم.

هل في هذا الرأي تفاؤل بأمل كاذب يوقعنا في نهاية المطاف بما يسمى “اليأس الصادق” وبخاصة أن عنوان “اليأس الصادق” موجودٌ في كتاب “جلد الذات” الذي يحاول القريب والبعيد تعميمه على أبنائنا من الحضانة حتى الجامعة.

إقرأ على موقع 180  نُردّد مع درويش "وطني ليس حقيبة"!

بعد حرب غزة آن الأوان لشطب هذا الكتاب من مناهجنا لأنه كان يرضعنا اليأس مع الحليب.

قلنا إن صمود غزة قد يشكل – ويجب أن يُشكّل – أمثولة لحركات التحرر في العالم تجب الاستفادة منها واعتبارها خياراً في مواجهة الطاغوت العالمي.

هل هناك طاغوت عالمي؟

نعم إنّه موجود وممتد في أنسجة المجتمع الغربي والعربي على حد سواء، وعلى ذلك، ومن رؤية أحرار العالم لهذا الطاغوت كان الحراك العالمي نصرة لحق الإنسان في غزة في الوجود وحقه في الأمن والكرامة.

وعلى ذلك فإن كل عربي يعيش في الغرب أو يزوره يقول لنا: نحن اليوم أمام حقيقة كبرى أنهت أو كادت أن تنهي سردية التطهير العرقي والابادة الجماعية التي كان يتعيش عليها الكيان منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، وفي أول يوم لهذه الحرب وحين رأى العالم الجرائم الباردة المدروسة بحق أهل غزة، نزل إلى الشوارع كمن نشب حريق في منزله، أو كمن تعرض منزله لزلزال مدمر، ففر منه طالباً النجاة لنفسه.

قبل “طوفان الأقصى”، وعلى مدى عقدين من الزمن، وفي عملية ممتدة كانت المواكب البرية القادمة من افريقيا والهند وتحديداً من على ضريح الزعيم جواهر لال نهرو تلتقي بتلك المواكب البرية القادمة من الهند عبر تركيا فسوريا فغزة، في عملية تلاحم بين أبناء ثلاث قارات رأوا الحق فانتصروا به.

كانت هذه القوافل تأتي بالمعونات وتعود بالمعنويات.

كانت المواكب البحرية تمخر عباب البحر المتوسط، متلهفة للقاء أهل غزة في عملية تناصر وتآزر تُوّجت بمسيرة “أسطول الحرية” الذي ضم ما يقارب سبعماية ناشط سياسي وثقافي من كل أرجاء العالم، قَدّموا قرابين من أحد عشر شهيداً وخمسين جريحاً امتزجت دماؤهم في بحر غزة، على مذبح الحب المتبادل بين عاشقي الحرية وصانعيها.

وكان أحرار أمريكا اللاتينية بكل حواضرها وقواها الحيّة قد ربطوا قضية تحررهم من الهيمنة الامريكية بقضية فلسطين كعنوان كبير للحرية في العالم، هذا مضاف إلى طلاب الجامعات، وأساتذتها الأحرار، وسائر القوى الحية في الغرب التي وقفت ضد العدوان على غزة، وأدانته بمسيرات واحتجاجات شعبية، واعتصامات حاشدة ومعبرة.

هؤلاء شركاؤنا، يستحقون الإهداء مع الانحناء، لأنهم كانوا شركاء في الدم بطريقة أو بأخرى.

لهم جميعاً نهدي نصرنا – نصرهم – بكل اعتزاز قائلين لهم: حقاً كانت بوصلتكم صحيحة يوم وقفتم مع حق الإنسان في الحياة وحقه في الأمن والكرامة.

ملاحظة: كنّا منذ الأشهر الأولى لهذه الملحمة الفلسطينية الخالدة قد أصدرنا كتابين هما “طوفان الأقصى والزمن الآخر” الجزء الأول، و”طوفان الأقصى والزمن الآخر” الجزء الثاني، والآن بدأنا الإعداد لإصدار الكتاب الثالث بأقلام مثقفي هذه الأمة، وتحديداً من لبنان، وكان الشاعر عمر شبلي هو جامع مواد هذين الكتابين السابقين وكاتب مقدِّمتَيهما..

Print Friendly, PDF & Email
هاني سليمان

عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، العضو المؤسس في المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  جورج فريدمان يكتب: الصين، الكفاءة الفائقة، و"كورونا"