NEO: نظرة غير تقليدية لـ”المصير المتجلي” و”الاستثنائية الأمريكية”! (2)

قدّم المؤرخ الأمريكي فريدريك جاكسون تيرنر تصنيفاً محدداً لثلاثة صنوف من المبادرين لاقتحام الحدود الجديدة (الجبهة). الصنف الأول هم المبادرون، أوائل من يتجرأون بالتحرك نحو أراض بدائية جديدة. الصنف الثاني، هم المهاجرون الذين تتوفر لديهم النية لشراء أراض وممتلكات عقارية ذات قيمة قام بصنعها المبادرون. أما الصنف الثالث فهم الرأسماليون ومبادرو الأعمال، وهم يمثلون لمسة "التمدن" أو "الأمركة" الأخيرة، التي تطلي "الحياة المدنية" بطبقة التحضر.

ننتقل الآن مع تيرنر Frederick Jackson Turner إلى الوجه السلبي لأطروحة الحدود (الجبهة)، حيث قام بإلقاء الضوء على بعض النقاط الهامة. أحدها هو أن هذا الحراك المتجه غرباً اقتضى بالضرورة “موت المحلية Death of localism”. بطبيعة الحال، هذه النزعة العدائية تجاه السكان الأصليين يمكن أن توضع جابناً ولو بصورة مؤقتة، سواء من مقتحمي الحدود الجديدة، أو أعداء الجبهة من الأوروبيين الإنجليز، حين يكون استخدام السكان الأصليين كحلفاء مفيداً في مواجهة عسكرية ضد الطرف الآخر. هنا تأتي حرب عام 1812 كنموذج صارخ في هذا الشأن.

عودة لتيرنر، الذي أكد في مقالته على أن التأثير السلبي للحدود/الجبهة في الغرب، امتد عائداً ليصل للساحل الشرقي للولايات المتحدة، وقد “أثّر بشكل كبير على الساحل الأطلسي وحتى العالم القديم”.

هل لنا أن نضيف هنا، أن مفهوم نهاية المحلية يتخطى “التوطين” و”الأمركة” والحدود الوطنية، ليصل فيما بعد إلى مفهوم يلامس نزعات “العولمة”؟

يُشدّد تيرنر هنا، على أن “الديموقراطية التي نشأت في سياق أرض حرة، ذات نزعة أنانية قوية، وفردية لا تطيق الخبرات الإدارية ومحددات التعليم، وتدفع الحريات الفردية إلى ما يتخطى الحدود”. ونتجرأ هنا على تيرنر لنضيف: “وتدفع التأثير المضاد للمحلية إلى ما يتخطى حدودها الوطنية أيضاً”، أليس كذلك؟

من المرجح أن تيرنر كان سيتفق مع هذه الإضافة المتجرأة فكرياً، فقد أوضح في مقالته: “تأثير شروط الحدود، بالسماح لتراخي فكرة الشرف في ممارسة الأعمال، تضخم العملة الورقية، والنشاط المصرفي غير المنظم. فقد كانت الحدود الاستعمارية والثورية هي الأقاليم التي نبعت منها أسوأ أشكال العملة الخبيثة”.

هل يبدو هذا الوصف وكأنه قد بقى محصوراً فقط داخل إطار حدود “العالم الجديد”؟

القوة الوقحة للبنوك غير المنظمة

البنوك غير المنظمة، أو كما كان يطلق عليها في هذا الزمن (بنوك القط البري Wildcat Banks)، هي مؤسسات مالية تقوم بطباعة العملة بكميات تفوق قدرتها على ردها بما يحمل قيمة من قطع نقدية.

قدم المؤرخ وأستاذ الاقتصاد الأمريكي هيو روكوف Hugh Rockoff، تعريفاً لبنوك القط البري كالتالي: “بنوك تكون عملاتها الورقية مدعومة بأوراق مالية مبالغ في قيمتها -أي سندات قامت الدولة بتقييمها بقيمة إسمية- ولكن قيمتها السوقية الحقيقية تكون أقل من قيمتها الإسمية”. هنا تمثل “أزمة عام 1837” المالية المشهورة باسم Panic of 1837، نموذجاً جديراً بالدراسة.

إن إصدار هذه العملة الورقية في مناطق الحدود/الجبهة، من قبل بنوك حكومية غير منظمة، متناثرة، غير ممولة بشكل كامل، ومتواجدة في مناطق نائية، تسبب في إحداث موجات متكررة من إغلاقات البنوك وعمليات النصب المالية التي وجد الناس أنفسهم بسببها يمتلكون أموالاً في جيوبهم وحساباتهم البنكية لا قيمة لها على الإطلاق.

أيبدو هذا الكلام الذي خطه تيرنر عام 1893 مألوفاً للقارئ المعاصر؟

جدير بالذكر، أن القارئ مدعو لأن يقوم بتمديد هذا التساؤل الأخير، وتعميمه ليشمل جميع مواصفات هذه الروح الأمريكية النابعة من أطروحة الحدود التي تم إلقاء الضوء عليها هنا. فهذه هي الفكرة الرئيسية وهذا هو سبب كتابة هذه الكلمات أصلاً.

نستشهد هنا باقتباس من شهيد بولسن Shahid Bolsen قاله في سياق أحد الفيديوهات التحليلية بعنوان (Trump: Overseeing the Downfall)، حينما صرح قائلاً: “عندما أتحدث عن الرأسمالية الغربية المتوحشة، فهذه الصفات هامة لأنها لا تتعلق بالرأسمالية في حد ذاتها، بل تتعلق في الغالب بالثقافة والخصائص الحضارية للغرب”. مضيفاً: “إنهم لا يتصرفون بهذا الشكل بسبب الرأسمالية، بل إن رأسماليتهم تعمل بهذا الشكل بسبب طبيعتهم”.

وحين حدّد فريدريك تيرنر ثلاث صفات للحدود/الجبهة وهي: “الفكاهة، الشجاعة والقوة الفظة”، يحسن لواحدنا هنا أن يترك للقارئ الحكم على ما ينتج من خلط كل هذه الصفات بعضها ببعض في هذا المزيج “الحدودي”، بغرض تفادي استخدام الكثير من السخرية السوداوية.

يقدم تيرنر في مقالته اقتباساً على لسان محرر بمجلة The Home Missionary: “بينما نتعاطف نحن مع كل ما يمكنه أن يزيد من الموارد الطبيعية ورفاهية بلدنا، لا يمكننا أن نتناسى أنه مع كل هذه التشتتات نحو أراضٍ نائية وأكثر انزواءاً، تتحول إمدادات وسائل الرفاهية والنعيم إلى ما هو أقل وأقل بشكل تناسبي”.

هل تتوقف هذه الندرة وهذا التناقص في الإمدادات المادية عند حدود الجبهات الأطلسية أو حتى الباسيفيكية؟ في وقت كتابة تيرنر لسطور مقالته وإلقائها على مسامع الجمهور، يمكن لمنكر أن يجادل بأن الإجابة على هذا السؤال هي “نعم. ولكننا إن قررنا توسيع مقاربة أطروحة الحدود لمفهوم ندرة الموارد إلى عالمنا المعاصر، فإن ذات المنكر لن يجد فكاكاً من أن يقوم بتغيير إجابته من “نعم” إلى “لا”.

إقرأ على موقع 180  البرلمان اللبناني وصندوق النقد: مَنْ يُقنع مَنْ بأرقامه؟

ملخص ضروري من مقالة تيرنر

يلخص تيرنر في مقالته سمات الحدود/الجبهة في فقرة محكمة قائلاً: “تلك الفظاظة وهذه القوة الممزوجة بالفطنة والفضول. تلك العقلية العملية المبتكِرة، سريعة إيجاد الحلول، ذلك الفهم المتقِن للأشياء المادية، المفتقر للابتكارية برغم القوة التي يتمتع بها لتحقيق الغايات العظيمة، تلك الطاقة العصبية، هذه الفردية المهيمنة، التي تعمل سواء للخير أو للشر، إلى جانب ذلك النشاط وتلك الحيوية اللذين يصاحبان الحرية. هذه هي سمات الجبهة/الحدود”.

The Frontier in American History | Livre numérique | Frederick Jackson Turner | Nextoryيتبعها تيرنر بفقرة أخرى لا تقل تأثيراً: “سيكون نبياً متهوراً من يؤكد أن الطابع التوسعي للحياة الأمريكية قد توقف تماماً. لقد كان الحراك هو العامل المسيطر عليها، وإذا لم يوقع هذا التدريب أي تأثير/تغيير على الشعب، فإن الطاقة الأمريكية ستتطلب باستمرار نطاقات أوسع لممارساتها. ولكنها لن تُمنح هذه الهبات من أراضٍ حرة مرة أخرى”.

لذا، أعتقد بأننا نكون محقين إذا ما أضفنا إلى ذلك، أنه بمجرد تحول الحدود/الجبهة إلى إمبراطورية، لا عجب أنها ستمسخ وتنسخ هذا الحراك نحو الغرب، لكي يكرر نفسه ويتمدد ويتوسع في جميع الاتجاهات الجغرافية والجيوسياسية.

نكرر للأهمية الاقتباس الذي قدمه لنا فريدريك تيرنر في مقالته، على لسان فرانسيس جروند، في كتابه بعنوان “Americans in their Moral, Religious, and Social Relations“:

“يبدو الأمر وكأن هذا النزوع السائد بين الأمريكيين للنزوح نحو البرية الغربية، بهدف توسيع نطاق سيطرتهم على الطبيعة الجامدة، هو نتاج حقيقي لقوة توسعية متأصلة بداخلهم، والتي من خلال تحريضها المستمر لجميع طبقات المجتمع، تقوم بإلقاء جزء كبير من السكان نحو الحدود القصوى للدولة، من أجل كسب مساحة لتطويرها. ولا تكاد تتشكل دولة أو إقليم جديد، إلا ويتجلى ذات المبدأ مجدداً، مؤدياً إلى المزيد من الهجرة، وهكذا يقدر لها أن تستمر حتى يعترض طريقها حاجز مادي طبيعي في النهاية”.

وبهذا الاقتباس من مقالة تيرنر الرائدة في طرحها، ننهي مقالتنا هذه، ولكنه من المؤكد أن حراك “الجبهة/الحدود” لن يهداً أو ينتهي عن قريب.

هذه المقالة، ليست إلا جهداً متواضعاً نحو محاولة فهم الدولة التي تدّعي اعتلاء عرش امبراطور العالم المعاصر، ولا يدّعي كاتب هذه السطور بأي حال، أنها تمثل القول الفصل أو التحليل النهائي الشامل لهذا الموضوع الحيوي الواسع.

لقراءة الجزء الأول: NEO: نظرة غير تقليدية لـ”المصير المتجلي” و”الاستثنائية الأمريكية” (1)


(*) لقراءة الجزء الأول من المقال الأصلي بالإنجليزية على موقع New Eastern Outlook.

(*) لقراءة الجزء الثاني من المقال الأصلي بالإنجليزية على موقع New Eastern Outlook.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  البرلمان اللبناني وصندوق النقد: مَنْ يُقنع مَنْ بأرقامه؟