لقد كان صعود الدين السياسي في السبعينيات الماضية إيذاناً بنهوض السادات والخميني. واحد لعقد اتفاق مع اسرائيل، وآخر لتبني قضية فلسطين من أيدي العرب، وجعلها وسيلة للايديولوجيا الدينية لا موضوعاً للعروبة. خُصِّص السادات بايديولوجيا محافظة مؤيدة للغرب، أو الغرب مؤيد لها، تستند الى الدين، أي الى الماضي لا المستقبل. وخُصِّصَ الخميني بايديولوجيا محافظة مناهضة للغرب. تستند الى الدين، أي الى الماضي لا المستقبل. في كل منهما إبعاد للناس عن الاشتراك في السياسة. وهذا مؤداه شل قدرة المجتمع على الإنتاج، وامتناعه عن التماسك. تفكك نسيج كل مجتمع هنا وهناك. صار مشلولاً وفاقدا للإرادة. كل منهما كان متيماً بالنيوليبرالية. واحد لجأ الى عولمة التبعية، وآخر الى الصراع والمواجهة السلبية التي اتخذت اسم الممانعة. تعبير الممانعة هو تعبير دقيق عن السلبية، توازي المواجهة الإيجابية ولو لم تتخذ اسم التبعية، إلا أنها في الصف ذاته. في الغرفة نفسها، حيث يتعلم التلامذة أصول التعامل مع الغرب والامبريالية. من خلف الطرفين تعيش شعوبنا في الماضي والسلف. ويبرع كل منهما في حروب أهلية ونشرها، ويشل إرادة الناس. وهل تبغي الامبريالية سوى شل إرادة الشعوب من أجل اشتداد حدة الاستغلال، وتبديد القوى، وإشاعة النظر عما هو أساس في النهوض وضروراته؟
لا تنهض الشعوب بماضيها، بل بصنع مستقبلها. وهذا يتأتى بالإرادة والخروج الى العالم، وتبني العلوم الحديثة، لا كأداة لنظام فكري تخلّف بل كقاعدة لتحديث العقل، وتحفيز الإرادة، وتحقيق الحرية. العزلة عن العالم عنصرية معكوسة. أن نعتقد أننا غير الآخرين يعكس هذه العنصرية. أن ندافع عن أنفسنا بصواريخ نخفيها في المغاور والكهوف هو كمن يدفن رأسه في الرمال. تأسيس المواجهة على بنية فكرية تستند الى الماضي هو أيضاً دفن للرؤوس في الرمال. الماضي رمال التاريخ. الإرادة هي بزوغ التاريخ دون تفكك المجتمع، ومع ترابط اجتماعي، وتماسك سياسي، وتعددية ثقافية، ومواطنة تجعل الفرد صدى الدولة، والدولة صدى الفرد. ولا تجرّد الفرد من المشاركة في السياسة، وتجعل السياسة مجالاً عاماً، لا فكراً للنخبة الدينية. همه طرح الأسئلة والتوغّل في المجهول من أجل الاكتشاف، لا الاحتماء بالتقليد لاستنباط المعلوم من المعلوم، ومن بطن كتب التراث التي يقرأها الكثيرون وتفهمها القلة.
لا نستطيع إلا أن نعتقد أن صنع السلاح النووي صار أمراً مؤكداً، والمفاوضات تدور حول أمور سياسية تتعلّق بالمنطقة المحيطة بإيران، ومنها المنطقة العربية بخاصة. وفي هذه المفاوضات ليست إيران هي الطرف الأقوى، وعلى الضعيف أن ينفذ ما يُملى عليه. وفي كل ذلك نتعاطف مع إيران ضد الامبراطورية. لكن ماذا ينفع إن غاب العقل عنا أو غُيّب؟
مع تأكد الغرب من خواء السياسة عندنا، رفع لواء النيوليبرالية، حوّل الامبريالية الى عولمة تعتمد نخبوية النظام العالمي، وتعميم الفقر على العالم باستغلال موارده الطبيعية وموارد قواه العاملة. وما الاستثمار في بلدان ضربتها أزمات مالية واقتصادية، أسبابها أنظمة سياسية مفتعلة ومصنّعة من أجل الانحلال الاجتماعي، إلا وسيلة لضخ الثروات من بلداننا، بما فيها بلدان الممانعة والمواجهة، الى المركز. أن نكون أطرافاً في النظام العالمي وهوامش لقوى الإنتاج فيها هو جوهر هذه الجيوستراتيجية العالمية التي تنتج مراكز، أو مركزاً واحداً، قادرة على الفعل، وأطرافا في بلادنا ليست قادرة سوى على رد الفعل، لا الفعل، من أجل ما يسمى المواجهة والممانعة، لا النهوض. وما يجعلها موضوعاً للصراع لا ذاتاً فاعلة. إن تكافؤ القوة بين أطراف النزاع لا يقتصر على حساب كميات السلاح لدى هذا الطرف وذاك، بل ينحصر في أن يكون السلاح بيد المجتمع، ولا يقتصر على النظام، وأن يكون المجتمع فيه حيوية الاقتصاد والسياسة، وفن السؤال، والشغب الفكري والسياسي، لا الانتظام وراء أقوال دهاقنة الاستبداد السياسي، وجهابذة الفتاوى الدينية، وأرباب سلفية تجعل الماضي مستقبلا للتطور ومقبرة للتاريخ. الماضي عندهم هو تفسير لما سبق، وتطبيق لما بني عليه، وليس ولوج الجديد والإبداع والابتداع، لعالم نصنعه ولا نبقى مجرد بيادق فيه؛ عالم لا تكون فيه ردات فعل بل منطلقات وحوافز لتفاؤل الإرادة رغم تشاؤمية الحاضر. الساداتية والخمينية قطبا عالم إسلامي واحد مهما بدت التناقضات بينهما وبين من جاء بعدهما. واقعية مستسلمة. النصر فيها مؤجل. الاستسلام واللااستسلام وجهان لواقعية تضع المواجهة في غير محلها، بعزل المجتمع عن المساهمة الكلية في صنع مصيره وتقرير مستقبله. مرجعية المجتمع عند كليهما هي الطاغية، سواء كان على الأرض أو في السماء؛ المهم فيها تجريد المجتمع من كونه مرجعية، وهو منطلق الممارسة وغايتها.
ذل الهزيمة هو في صواريخ نكدسها ومسيّرات غير مأهولة نوجهها، بينما يقصفنا العدو بطيران قاتل، نرد عليه بمدفعية مضادة قديمة لا تسقط طائرة واحدة للعدو. ذل الهزيمة هو في حروب أهلية وطوابير منتظمة نُشداناً لكل ضروريات الحياة. ذل الهزيمة هو الاستناد الى مجتمع مشلول. ذل الهزيمة هو في أن يغتال القادة منا، في أحضاننا، ونؤجل الرد، أو بالأحرى نعجز عنه، وربما يحصل في بلاد بعيدة عن طريق وسطاء. الذل أن يكون الثأر مؤجلاً الى وقت مناسب. الذل في أن نُقْصف ولا نَقْصِف، وأن نكون أهدافاً لقصف يستهدفنا بل يصطادنا. باختصار، الذل يكون في أن نجعل من أنفسنا أهدافاً للقصف، لا أن نكون فاعلين. لكي نكون فاعلين نحتاج الى مجتمع فاعل. الطغيان، وإلغاء السياسة، ومنع المواطن من المشاركة في المجال العالم، ومنعه من المواطنة، ليبقى خاضعا ورعية وجزءاً من القطيع، كل ذلك أساسي في عجزنا وهزيمتنا.
ليس المهم الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، بل ما لا يكتب في الاتفاق النووي، وما لن يكتب في أي اتفاقية دولية، وهو ما يتعلّق بالديكتاتوريات العربية والإسلامية عامة، وكيف سوف تتمكّن من الشعوب العربية والشعوب الإسلامية على أساس الاتفاق النووي. سواء نجحت إيران في صنع السلاح النووي أو لم تنجح، المهم كيف سيرى النظام الإيراني نفسه بعد الاتفاق السياسي المؤسس على النووي. هناك بضع عشرة دولة في العالم تملك وتصنّع السلاح النووي. والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمته في اليابان، وذلك ليس من أجل تحقيق السلام، بل من أجل شروط الاستسلام، ولم تكن قد قُرّرت بعد. استخدمت الولايات المتحدة النووي من أجل أهداف سياسية. ما هي الأهداف السياسية الآن؟ الاتفاق الذي عُقِدَ مع باراك أوباما مزقه دونالد ترامب. الحقيقة هي أن النظام الأميركي مزقه لأنه تقني وحسب. هذا ما أعتقد حسب معرفة ربما كانت منقوصة فيما يتعلّق بالنظام الأميركي (السيستم)، والأرجح أن نقص معرفتنا بخبايا الأمور وارد. لكن ما هو أساس التحليل لدينا هو ما نراه أمام أعيننا، خاصة في العراق، وهو ما نبني عليه. كما كان أحد أئمة الفقه يُردّد: الشاهد على المنظور. وعندما سُئِلَ عن عدد قوائم الدابة، نزل عنها وعدها ثم أجاب. هل ما يجري في العراق، وقبله أفغانستان جزء من اتفاق لم يوقع بعد؟ بل هي أثمان بُدِئ بدفعها قبل الاتفاق من أجل إعطاء ضمانات للامبراطورية. الامبراطورية، لا إيران، هي التي تطلب الضمانات. والأرجح تريد أن ترى ذلك سلفاً ليكون الشاهد على المنظور. الأقوى لا يعطي ضمانات. الأضعف يعطي ذلك. الدائن لا يعطي ضمانات. على المدين أن يعطي الضمانات ويقدم ما يملك بأوراقه الثبوتية اتفاق الدين.
دور إسرائيل في ذلك ليس نقيضاً للامبراطورية، بل مكمّلا له، أو شغالاً عند “السيستم”، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وكذلك دور حكومة الطالبان في أفغانستان. والمعلوم أن اشتباكات متقطعة تدور على الحدود الإيرانية-الأفغانية. لا ننسى أنه تم تسليم السلطة للطالبان بعد سنوات ثلاث من التفاوض، أما الانسحاب من أفغانستان فلم يكن عشوائياً كما يُراد أن يبدو. وقد ترك الأميركيون في أفغانستان كمية من السلاح تفوق ما يملكه الحلف الأطلسي.
لا نستطيع إلا أن نعتقد أن صنع السلاح النووي صار أمراً مؤكداً، والمفاوضات تدور حول أمور سياسية تتعلّق بالمنطقة المحيطة بإيران، ومنها المنطقة العربية بخاصة. وفي هذه المفاوضات ليست إيران هي الطرف الأقوى، وعلى الضعيف أن ينفذ ما يُملى عليه. وفي كل ذلك نتعاطف مع إيران ضد الامبراطورية. لكن ماذا ينفع إن غاب العقل عنا أو غُيّب؟ تغييب العقل والعزوف عن السياسة التي هي وحدها سبب النهوض مؤداهما الضعف والإذعان لاتفاق يلغي السيادة.
ما تواجهه إيران الآن وكل مجتمعات الاستبداد في بلادنا العربية، وفي المجال الإسلامي عامة، هو مشكلة أن الاستقلال لا يحرر المجتمع. الاستقلال يعني التحرر الوطني. والحرية تعني أن يتحرر المجتمع من نفسه أولا، وتنفك القيود، ويشارك الناس كأفراد في السياسة وفي تقرير مصيرهم. الاستقلال يعني تحرر المجتمع. الحرية تعني تحرر الفرد في إطار المجتمع. وذلك لا يكون إلا بالنهوض الاقتصادي الذي يخلق تماسكاً اجتماعياً لا يقهر.
وقد قيل: لا بدّ من صنعاء وإن طال الزمن.