

.. ولا هذا الحلّ المناسب متمثّلٌ في مهاجمة “كلّ” الثّقافة الأميركيّة، أو “كلّ” الجهات والمدارس والأكاديميّات الأميركيّة. ولا هو متمثّلٌ، بالتّأكيد، في مهاجمة و/أو إهانة الشّعب الأميركيّ (وهو، بالمناسبة، وفي الاجمال، من أكثر الشّعوب الغربيّة سلاسةً ولطفاً وتقبّلاً للآخر.. بل ومحافظةً على الكثير من القيم الأسريّة والدّينيّة والرّوحيّة التي نتمسّك بها في منطقتنا وضمن ثقافاتنا المشرقيّة بالذّات).
هناك، إذن، سياق واسهام حضاريّ – “أميركيّ” تحديداً – يتوجّب الاعتراف بوجوده، ولو أنّ له جوانب سلبيّة كثيرة ربّما في نظرنا أو في نظر غيرنا. وهذا حال جميع المشاريع والتّوجّهات الحضاريّة حول العالم في المبدأ: من يُمكنه انكار ذلك؟
وليس الشّعب الأميركيّ، بالمعنى الاجماليّ، هو المسؤول عن سياسة حكوماته المتعاقبة الخارجيّة، ولو أنّه ليس معفيّاً بالكامل من هذه المسؤوليّة، لا سيّما من باب سلطته الانتخابيّة المبدئيّة والنّظريّة.
ولكنّ هذا الحديث وهذا الجدل يمثّلان جانباً واحداً من المشهد الأميركيّ العامّ اليوم.. وتُمثّل ظاهرة الرّئيس الحاليّ للولايات المتّحدة، بأغلب تجلّياتها، مشهداً آخر لوحدها – ومن جهة ثانية.
وقد يختصر السّؤالُ التّالي النّقاشَ المقصودَ في هذا الاطار: هل “ترامب” هو حقّاً رئيس دولة عظمى مثل أميركا؟ أو بدقّة أكبر: هل وصول شخصيّة مثل “ترامب” إلى سدّة رئاسة دولة كالولايات المتّحدة.. هي حالة سليمة حقّاً بالنّسبة إلى أميركا وبالمعنى الحضاريّ-التّاريخيّ تحديداً؟
أو، بطريقة أخرى لكن ضمن السّياق عينه: هل أنّ وصول رجل كدونالد ترامب إلى رأس السّلطة التّنفيذيّة في أميركا، هو دليلٌ على شيء جوهريّ آخر.. غير أنّ أميركا تعاني من مشكلة ثقافيّة وحضاريّة عميقة، رغم كلّ ما سبق التّنبيه إليه في بداية هذا المقال؟
لا أعتقد أبداً أنّ تمكّن رجل كهذا الرّجل من قيادة دولة كالولايات المتّحدة.. هو خبر جيّد بالنّسبة إلى هذه الأخيرة، وبالمعنى العامّ المقصود في هذه الورقة. ومن المرجّح بالنّسبة إليّ أن يكون هذا “الوصول” هو أحد الأعراض المهمّة جدّاً لمرض “حضاريّ” عميق: ما برح.. يفتك ويتمدّد ويتجذّر داخل الثّقافة والمجتمع والنّخب الأميركيّة بشكل عامّ.
***
لنتأمّلْ معاً في تصوّرنا العامّ المختصر الرّاهن، كمراقبين، لظاهرة “ترامب” هذه، لا سيّما من زاوية الفرد-القائد إذن.
“الأنا” تحكم الشّخصيّة بشكل كاريكاتوريّ و(شبه) جنونيّ.. وسطحيّ-هزليّ معاً.
الأنانيّة. الفردانيّة. التّفرّد. التّسلّط.
العناد الفردانيّ (أقلّه في الظّاهر)، شبه الكوميديّ.. حتّى مع الفريق المقرّب والأعوان الأقربين.
باختصار: كلّ ما يتعارض مع الحدّ الأدنى من توصيات أهمّ مدارس الحكمة حول العالم أجمع.
نحن أمام ظاهرة “ترامبيّة” يجب أن تدفع جميع المراقبين وجميع المفكّرين، لا سيّما منهم الغربيّين والأميركيّين، نحو التّساؤل حول مدى خطورة وعمق الكارثة الحضاريّة-الثّقافيّة التي تعرفها أميركا اليوم. وعلى بعض النّخب اللّبنانيّة والعربيّة عندنا الكفّ عن الانبهار بعملاق أمبرياليّ مادّيّ-رأسماليّ-تكنولوجيّ: يبدو مريضاً – حقّاً – على عدد من المستويات الانسانيّة والرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.. وإلى حدّ بعيد
مَن يعرف المجتمعات الغربيّة جيّداً، يعرف أنّ هذه صورة لها شعبيّتها الواسعة لدى الشّباب للأسف: “الفرد-الأنا-البطل-الإله.. والسّطحيّ شبه الجاهل”. هذا هو النّموذج-المثاليّ المنشود والمقصود عند كثير من شباب اليوم للأسف.
قليل من الذّكاء الذّهنيّ الفطريّ – لا الرّوحيّ ولا حتّى العاطفيّ – وقليل من المال أو من المحيط البورجوازيّ: ويُصبح الشّابّ أو الشّابّة مرشّحَين لمنصب “الإله-الإنسان.. السّطحيّ”. من الواضح أنّنا لسنا بِبَعيدين هنا عن مسؤوليّة مباشرة لفلسفة فريدريك نيتشه، ولكن أيضاً، لفلسفة النّفعيّة أو المنفعة (Utilitarisme) وفلسفة الرّأسماليّة-اللّيبراليّة (ذات الطّابع الفردانيّ المُبالغ فيه على أرض الواقع خصوصاً).
لذلك، أن يكون دونالد ترامب شخصاً ذا أنانيّة مُفرطة بل (شبه) مرضيّة، أو أقلّه أن يظهر بهذا المظهر.. بل أن يكون أو يظهر بمظهر الفرد المؤلِّه لأناه ولأنانيّته: كلّ ذلك يُمثّل جانباً مُهمّاً ولكنّه ليس الأهم. الجانب الآخر الأهمّ والأخطر: هو أن يكون عدد هائل من الشّباب الأميركيّ والغربيّ.. مُعجباً بمظهر “الوحش الأنانيّ المؤلّه لنفسه” هذا.
هل هذه إشارة ايجابيّة في ما يخصّ التّوجّه والاتّجاه الحضاريّ الأميركيّ (وأيضاً الغربيّ بشكل أعمّ)؟ لا أعتقد ذلك أبداً. نحن، برأيي، أمام مرضٍ عميق جدّاً وخطير جدّاً بالمعنى الانسانيّ والرّوحيّ والحضاريّ.. تشي به هذه الظّاهرة، بالإضافة إلى ظواهر بدأت تتكاثر يوماً بعد يوم.
أضف إلى ذلك: أنّ “الأنا” هذه المضخّمة.. تظهر بمظهر “الأنا الفارغة” واقعاً، وإلى حدّ كبير، كما بدأنا بالإشارة في ما سبق. تظهر للأسف بمستوى عالٍ جدّاً من السّطحيّة الكارثيّة، ومن الجهل الكارثيّ، ومن التّخلّف الأخلاقيّ والسّلوكيّ والثّقافيّ الكارثيّ. على سبيل المثال لا الحصر:
- رئيس يستخدم الكلام السّخيف في الظّاهر أقلّه، والكلام السّوقيّ والسّطحيّ في أغلب خطاباته.. حتّى منها الرّسميّة! ويناقض نفسه بنفسه بين الخطاب والخطاب، بل وداخل الخطاب عينه! أليس هذا واقعاً شاخصاً ظاهراً أمامنا اليوم؟
- رئيس دولة عظمى يستخدم كلمات نابِية مع رؤساء الدّول وقادة الأمم حول العالم، وبين هذه الأخيرة أمم تتطوّر انسانيّاً منذ آلاف السّنين.. بينما لا يتجاوز عمر “الأمّة” الأميركيّة بضع المئات من السّنين (مع كلّ الاحترام لجميع شعوب وأمم الأرض طبعاً). على كلّ الأمم أن تحترم أميركا: ولكن، ليس من المقبول أن يُهين رئيس واحدة من أهمّ الديّمقراطيات حول العالم.. أن يُهين جميع أمم الأرض ومن على منابر رسميّة!
- قائد لأمّة كبرى يظهر بمظهر الفرد الذي لا يقرأ، ولا يمتلك الحدّ الأدنى من الثّقافة المطلوبة على المستوى الفرديّ. من العجيب أن يجهل رئيس الولايات المتّحدة مثلاً أنّ سقوط الامبراطوريّة الرّومانيّة قد سبق نشوء الولايات المتّحدة الأميركيّة.. وفي تصريح رسميّ! قد تضطّرّ أحياناً لأن تسأل نفسك أمام ظاهرة كهذه: هل قرأ هذا الرّجل كتاباً واحداً في حياته؟ ما هذا الجنون؟ هل هو يُمثّل.. أم هذه هي حقيقته؟ عجيب!
- قائد الدّولة “القائدة” للعالم يأتي ببرامج اقتصاديّة من المرجّح أنّها لم تمرّ بدراسات جدّيّة وملائمة ومعمّقة. بل يُصدر قرارات تهدّد بإشعال حروب تجاريّة كونيّة، وبتفجير الأسواق الماليّة الأميركيّة والغربيّة.. ثمّ يتراجع عنها بعد أيّام قليلة، ويشتم قادة الدّول الأخرى.. كأنّه يحتسي وايّاهم البيرة في Pub على مفترق طريق أحد الأحياء الشّعبيّة! هل نحن حقّاً أمام ظاهرة سليمة انسانيّاً وثقافيّاً.. وسياسيّاً؟؛
- رئيس دولة تقول بعض نخبها إنّها عظمى.. يقرّر أنّ الحلّ في قطاع غزّة، الذي يتعرّض لأبشع أنواع القصف والقتل والابادة منذ حوالي السّنة والنّصف: يقرّر أنّ الحلّ فيه هو في تهجير الشّعب الفلسطينيّ. ثمّ يبدأ ببثّ عدد من الايحاءات التّجاريّة غير الملائمة (..). ثمّ يقرّر أنّ أولويّة دولة كبيرة كالولايات المتّحدة حقيقةً.. هي في ضرب الشّعب اليمنيّ الفقير بسبب اسناده للشّعب الفلسطينيّ (..). ثمّ يُكرّر انتقادَه لهيلاري كلينتون بسبب مساهمتها في دعم وصول الجماعات الاسلاميّة إلى الحُكم في بعض الدّول العربيّة.. قبل أن يُحيّي “صديقَه” الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان وهو راعي أغلب هذه الجماعات.. بما فيها التّكفيريّة منها! (هذه بعض الأمثلة المعبّرة طبعاً).
- قائد دولة كالولايات المتّحدة، يُقال انّها راعية كوكب الأرض ومن عليه من الأنام والأنعام: يقوم بإجراءات تهدّد الأمن البيئيّ للعالم بشكل مباشر، غير مكترث بآراء الأمم الأخرى، ولا بالاتّفاقات الأمميّة، ولا برأي الخبراء، ولا بخلاصة الدّراسات.. بل هو يكاد لا يُظهر الحدّ الأدنى من المعرفة بتفاصيل الجدل الأكاديميّ الدّائر حول القضيّة. تتساءل هنا: هل من معيار لدى هذا الرّجل غير الجشع والطّمع المادّيَّين بالمعنى الضّيّق.. حقّاً؟
على كلّ حال، يمكنك أن تضيف أيضاً: مساهمة هذا الرّجل وفريقه في ترويج الأفكار الفاشيّة والعنصريّة والمتطرّفة حول العالم الغربيّ.. واللّائحة قد تطول بسهولة.
ولكنّني أعتقد، عند هذا الحدّ، أنّ الفكرة الجوهريّة قد وصلت: فنحن أمام ظاهرة “ترامبيّة” يجب أن تدفع جميع المراقبين وجميع المفكّرين، لا سيّما منهم الغربيّين والأميركيّين، نحو التّساؤل حول مدى خطورة وعمق الكارثة الحضاريّة-الثّقافيّة التي تعرفها أميركا اليوم. وعلى بعض النّخب اللّبنانيّة والعربيّة عندنا الكفّ عن الانبهار بعملاق أمبرياليّ مادّيّ-رأسماليّ-تكنولوجيّ: يبدو مريضاً – حقّاً – على عدد من المستويات الانسانيّة والرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.. وإلى حدّ بعيد.
وإلّا: فكيف يُمكن لشخص عجيب كهذا الشّخص أن يُصبح رَئيسَه ومُمَثّله؟ كيف؟