

لقد اعتدت كطبيبة، أن أتابع أعراض المرض وآثار تشظياته ليس على الجسد فقط، بل في اللغة والهوية أيضاً. في غالب الأحيان، تُبرِز تجربة الأمراض المزمنة والمستعصية تعارض المعايير وتضارب القيم. تناولت تلك المسائل من منظور ذاتي وفلسفي في كتابات لي سابقة في سياق اشتغالي على مبحث أخلاقيات الطب. وقد شكلت الرواية – وخصوصاً الكلاسيكية منها – رافداً أساسياً في فهم العلاقة بين المرض والثقافة. ولهذا السبب، وجدتني مشدودة إلى رواية هدى بركات التي يتقاطع متنها مع الأسئلة الكبرى حول المرض والعزلة وثقافة المحيط وقيمه، فخرجت منها بملاحظات وأسئلة كطبيبة وكقارئة في آنٍ واحدٍ.
المرض كتحوّل في العلاقة مع الذات والعالم
يظهر المرض في هذه الرواية كعنصر أساسي في السرد وكمنعطف وجودي يُعيد تشكيل وعي الشخصية المحورية -(“هنادي”)- لذاتها وللعالم من حولها. مرض «الأكروميغاليا» الذي يُصيبها يؤدي إلى تضخّم الأطراف وإلى تحوّل في صورة الوجه بسبب إفراز مُفرط لهرمون النمو. لا يُطرح المرض هنا كتشخيص سريري أو كتفصيل في سمات الشخصية الرئيسية بل كتحوّل جسدي وبالتالي نفسي ووجودي. من هذا المنظور، نرى “هنادي” أسيرة جسد لم يعد ينسجم مع وظيفيته ولا مع صورته، سواء أكانت هذه الأخيرة انعكاساً في المرآة أو نتيجة أحكام نمطية. إنها تجربة جذرية تُغيّر موقع الذات داخل فضاءات متشابكة. أما “هنادي” المرأة فتتحول من صورة جميلة منمقة في طفولتها وفي دورها الـ«الطبيعي» إلى وعي متصدّع يتأرجح بين الواقع والخيال. هنا، يبرز التوتر بين ما هو طبيعي وغير طبيعي، بين الأنوثة المألوفة والاختلاف المنفر لتتشكل حولها عزلة خانقة يائسة. فتقول:
«طال وقت انتظاري، وخفت أن أبقى هكذا شبه مشلولة على كنبتي.. استفقت سابحة في عرق بارد. كنت سيئة المزاج، والشقة غارقة في الظلمة. لم أتمكن من مغادرة الكنبة لإشعال النور بسبب آلام ظهري، الذي أصبح كأنه لوحاً لا تتحرك فيه أي فقرة.. سمعت طرقاً على الباب. قلت إنّه خطأ فأنا لا يطرق على بابي أحد».
في هذا السياق، أستدعي قراءة جورج كانغيلهم في بحثه «السويّ والمرضي» (Georges Canguilhem, Le Normal et Le Pathologique):
«المرض لا يُفهم فقط من خلال ما يختل في الجسد، بل من خلال ما يتغير في علاقة الكائن بالعالم».
يعتبر كانغيلهم أن اختزال المرض إلى مجرد انحراف عن معيار ثابت هو تبسيط مخلّ، ويؤكد أن المرض ليس مجرد غياب الصحة، بل هو نمط وجود خاص، يُعاد فيه تعريف العلاقة مع الذات والعالم، وتُبتكر فيه معايير جديدة من الداخل ومن الخارج.
“هنادي” تبحث عن السرد كوسيلة لتكون، في قصتها مجرد غموض لكنها تدرك أن «للذاكرة سلوكاً منحرفاً». فهي لا تحب «أسئلة البحث العميقة» إلا أنها سعت لتفكيك بعض منها. في سردها كينونة وصيرورة ووسيلة للبقاء. تبتكر في اختلافها المؤلم الصارخ. بهذا المعنى وداخل تصور كانغيلهم فإنّ الصحة هي كذلك؛ قدرة الكائن على اعادة ابتكار الحياة داخل شروط مغايرة. ومن هنا تتموضع سردية “هنادي” كفعل مقاومة عبر إعادة حياكة الواقع بتشعباته وتخيلاته وتنقلاته الرشيقة بين الماضي والحاضر.
في هذا السياق، يُمكن إستعادة القراءة الفوكوية للمرض المزمن. هذا المرض هو “خلل جسدي» لا يُفهم خارج شبكة السلطة والمعرفة. فالجسد خاضع لجهاز يضبط ويصنف. فيُقصـى المختلف عن معايير «السواء» المقبولة ثقافيًا أو يُعاد تطبيعه.
في كتابه «المراقبة والمعاقبة»، يعتبر ميشيل فوكو (Michel Foucault) أن مفهوم «الشذوذ» ناتج عن أنظمة اجتماعية تسعى إلى تهميش المختلف (أو غير السوي) ومحوه من المشهد العام، أي بتعبير آخرإجراء نوع من “التشذيب” الاجتماعي (invisibilis ation)؛ وهو ما تجلى في شخصية “أم هنادي” التي محت مرض ابنتها من حديثها مع الآخرين وعبر عزلها في العلية كفعل إقصائي لجعلها غير مرئية.
في هذا الإطار، لا تسلم “هنادي”، بطلتنا، من تصنيف ثقافي–طبي، فيفرض عليها بذلك نوع من الرقابة الذاتية. إذ تراقب بنفسها صورتها في مرآة الآخر، فهي في البداية تبتعد عن الأنظار، تتنقل خفية إلى النهر الذي يشبه النهر، كانّها امتثلت لقانون وضعته أمها عن طريق النبذ والإقصاء.
في خلاصة النظرة الأولى؛ تُجسّد رواية “هند أو أجمل امرأة في العالم” توترًا عميقًا بين الجسد المريض كتجربة حية (كانغيلهم) والجسد الشاذ كمنتَج للخطاب (فوكو). فبينما يُركز جورج كانغيلهم على المرض كإعادة ابتكار للعلاقة مع العالم، بوصفه تجربة فردية تتحدى المعيارية الطبية، يرى ميشيل فوكو أن المرض المزمن يتحوّل إلى أداة لضبط الأجساد وتصنيفها، عبر سلطة الطب والمجتمع.
الرواية تقترب من النصوص الذاتية، أكثر من اقترابها من البناء السردي الهادف إلى التشويق والإثارة. غير أن هذا الأسلوب، برغم قيمته الفكرية، قد يُثقِل على القارئ، لا سيما حين يغدو التكرار سمة مهيمنة تُبطئ الحركة السردية. حركة تمتحن القارىء في رغبته بمواجهة مباشرة مع بطء الزمن والغوص في تفاصيل أحيانًا تبدو باهتة برغم أنها ليست إلا تعبيرًا عن واقع باهت لمريض أعاقه المرض كما أعاقه المجتمع
تأملات في «هند أو امرأة لا تشبه أحدا»
تُقدّم هدى بركات شهادة أدبية غنية ومكثفة على ما تسميه كلير مارين بـ«العزلة الوجودية التي يفرضها المرض، ليس فقط على الجسد، بل على العلاقات والانتماء».
وفي سياق ذلك، تتحول عزلة “هنادي” إلى فضاء داخلي تعيد من خلاله تشكيل المعاني والحكايا مطلقة العنان لتأويلاتها وأحكامها. فمرض “الأكروميغاليا” يُهاجمها من الداخل؛ يتسلل إلى ملامحها؛ إلى خطواتها؛ إلى شكلها. تصبح غريبة داخل جسدها، وغريبة داخل اسمها، وغريبة عن أمها وعن المجتمع برمته. حتى في مقارنة صامتة مع أخت هند حقيقية كانت أم خيالية. ذلك يُسبّب بتراً، خارج إيقاع الآخرين (temporalités) وبالأخص خارج حضن الأم كـ(coocooning) كما وصفه وينيكوت (Winnicott) أو البيئة الحاضنة، مشيراً إلى «الأم الجيدة بما يكفي» (La mère suffisamment bonne). فعلٌ معقدٌ يحمل في طياته خليطًا من الخجل والجرح النرجسي. “هنادي”، بجسدها المريض والمختلف، تخلّ بالجمال الأنثوي الواعد وتُحطّم الصورة بل الرمزية الثقافية التي تتغذى منها الأم لتأكيد ذاتها وقيمتها داخل مجتمع يرى في الأنثى«شيئاً» جميلاً معروضاً مزركشاً ومنمقاً في المناسبات.
ومن حيث إطار السرد، تبدو الرواية رحلة داخلية بطيئة، لا تُعنى كثيرًا بتعدد الأصوات فتتكئ على صوتٍ واحد ينكفئ إلى الداخل. هذا الاختزال يمنح الشخصية عمقًا نفسيًا واضحًا، لكنه في الوقت ذاته يُضيّق من أفق السردية.
اللغة هنا هي كيان قائم بذاته. لغة متأملة، بطيئة الإيقاع، تمنح البطلة صوتًا داخليًا متشابكًا، أشبه بمحاولة لترميم الشظايا التي خلّفتها تجربة المرض والعزلة.
والرواية تقترب من النصوص الذاتية، أكثر من اقترابها من البناء السردي الهادف إلى التشويق والإثارة. غير أن هذا الأسلوب، برغم قيمته الفكرية، قد يُثقِل على القارئ، لا سيما حين يغدو التكرار سمة مهيمنة تُبطئ الحركة السردية. حركة تمتحن القارىء في رغبته بمواجهة مباشرة مع بطء الزمن والغوص في تفاصيل أحيانًا تبدو باهتة برغم أنها ليست إلا تعبيرًا عن واقع باهت لمريض أعاقه المرض كما أعاقه المجتمع.
وبرغم كل هذا التأمل والانكفاء، تظل هناك حكاية تُروى. “هنادي” لا تتحدث فقط عن ذاتها، بل تمزج الحاضر بالماضي في حركة سردية دائمة، تُحيل كل ما يحدث داخل مرآة أوسع وهو انهيار الوطن.
إن انهيار الجسد هنا يقابله انهيار الدولة. المرض الذي يصيب البطلة يتقاطع مع المرض الذي يصيب الوطن. انفجار المرفأ، انهيار العملة، ضياع مدّخرات الناس في البنوك، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل جزء من نسيج السرد، حيث تتماهى الأزمة الشخصية (الفردية) مع الأزمة الجماعية.
وبشكل أدق تُقدّم الرواية تأمّلًا في الإعاقة، حالة فردية كانت أم جماعية، داخل مرآة كبيرة تتداعى فيها صورة البطلة، وتتكسّر معها صورة البلاد.
في الختام، تستحق رواية هدى بركات أحسن تقدير وبالأخص لجرأتها في تمثيل الهشاشة الأنثوية خارج المعايير الجمالية السائدة وكذلك لتمثيل السرد كأداة للترميم الذاتي. جائزة الشيخ زايد للكتاب التي استحقتها الكاتبة؛ اعترافٌ بهذه الفرادة وبتجربة أدبية ذات غنى وجودي وفلسفي.
(*) “هند أو أجمل امرأة في العالم”، رواية من تأليف الكاتبة اللبنانية هدى بركات، صادرة عن “دار الآداب” – بيروت (2024).