

لا بد من الإشارة أولاً إلى أن مفاعيل الإنتخابات البلدية لا يُمكن اسقاطها ميكانيكياً على الانتخابات النيابية، برغم ما تعطيه من مؤشرات أولية، فالانتخابات البلدية ما زالت تجري على أساس القانون الأكثري وبيروت دائرة انتخابية واحدة، وهو الأمر الذي يستوجب التعديل في الانتخابات المقبلة باتجاه اعتماد القانون النسبي، بينما تجري الانتخابات النيابية منذ العام 2018 على أساس القانون النسبي وتقسيم بيروت إلى دائرتين أولى وثانية.
كيف يُمكن تقديم قراءة أولية لانتخابات بيروت البلدية التي جرت يوم الأحد في 18 أيار/مايو 2025؟
اقترع في هذه الانتخابات حوالي 105 آلاف ناخب من أصل 515 ألف ناخب، أي أن نسبة المقترعين بلغت نحو 20% من اجمالي الناخبين، وهي مطابقة لنسبة التصويت في الانتخابات البلدية السابقة التي جرت عام 2016. غير أن التكوين الطائفي للمقترعين هذه السنة أتى مغايرًا. ففي حين انخفضت نسبة المقترعين السنة من 28% في 2016 إلى 25% هذه المرة، أي بتراجع 3 نقاط مئوية، تضاعفت نسبة الاقتراع لدى الشيعة من 13% في 2016 إلى أكثر من 27% في 2025. كذلك انخفضت نسبة التصويت لدى المسيحيين (غير الأرمن) من 20% في 2016 إلى أقل من 15%.
وشهدت هذه الانتخابات تنافساً بين عددٍ أكبر من اللوائح (لا يوجد لوائح في القانون) حيث بلغت 6 لوائح وهي: بيروت تجمعنا (الأحزاب مجتمعة)، بيروت بتحبك (مدعومة من الجماعة الإسلامية وتيار المستقبل (بشكل غير معلن) والنائب نبيل بدر وعائلات)، بيروت مدينتي (مدعومة من قوى التغيير والنواب إبراهيم منيمنة وبولا يعقوبيان وملحم خلف)، ولاد البلد (عائلات وشخصيات بيروتية)، مواطنون مواطنات في بيروت (حركة مواطنون ومواطنات في دولة التي يقودها شربل نحّاس)، بيروت عاصمتنا (حزب النجادة)، بالإضافة إلى مرشحين ومرشحات منفردون/ات. وترشح 156 مرشحًا ومرشحًة على 24 مقعدًا، وهو رقم قياسي أيضًا مقارنة بـ93 مرشحًا ومرشحًة في 2016.
وللمقارنة، لم تشهد الانتخابات السابقة في 2016 سوى ثلاث لوائح جدية هي: لائحة تحالف الأحزاب مجتمعة، لائحة بيروت مدينتي، لائحة مواطنون مواطنات، غير أن هذا التعدد في اللوائح هذه السنة لا يعكس حيوية معينة بقدر ما يعكس أثر غياب زعيم تيار المستقبل سعد الحريري الذي كان يستأثر بالتمثيل السني في بيروت، وبالتالي يحد من جموح باقي الأحزاب والعائلات للترشح في الملعب نفسه، خصوصاً وأن الناخب السني يوازي وحده نصف القاعدة الانتخابية مقابل الآخرين من مسيحيين من كل المذاهب وباقي المسلمين شيعة ودروزاً، فضلاً عن أن الحريري الأب ثم الابن كانا يُشكلان ضمانة أساسية للمناصفة.
ووفق النتائج غير الرسمية حتى الآن، من الواضح أن تحالف الأحزاب قد حصد 40% من أصوات المقترعين وهو قريب من المعدل الذي حصده التحالف نفسه في 2016 عندما حصل على 43% من إجمالي أصوات المقترعين.
وثمة مفارقة لافتة للانتباه أن لائحة “بيروت بتحبك” المدعومة من الجماعة الإسلامية والنائب نبيل بدر وعائلات بيروتية تبوأت المركز الثاني وتمكن رئيسها الضابط المتقاعد والمنسق السابق لتيار المستقبل في بيروت العميد محمود الجمل من خرق اللائحة حيث احتل المرتبة الـ 22. وحصلت لائحته على معدل 24% من المقترعين وهو أمر يطرح علامات استفهام حول الدور الذي لعبه تيار المستقبل في العملية الانتخابية، برغم قراره المعلن بعدم خوض هذه الانتخابات ومضيه بقرار تعليق العمل السياسي.
وحلّت في المرتبة الثالثة، وبفارق كبير، لائحة “ائتلاف بيروت مدينتي” التي لم تحصل سوى على 6% من المقترعين مقارنة بـ 30% في 2016، كما حصدت لائحة “مواطنون ومواطنات في بيروت” أقل من 1% مقارنة بـ 4% في 2016. وهذا يعني أن اللائحتين الأولى والثانية اللتين تتميزان بتكوينهما التقليدي العائلي والحزبي حصدتا 64% من الأصوات، مقابل 7% للوائح التغييرية، فيما توزعت باقي الأصوات على باقي اللوائح.
ولا يمكن عزل نتائج هذه الانتخابات عما تشهده المنطقة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ففيما تتم إبادة شعب بأكمله في فلسطين المحتلة على مرأى من عالم تنهار مؤسساته الدولية تحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية الأميركية الصنع، تشهد سوريا بعد سقوط نظام آل الأسد حالة غير مستقرة بفعل عوامل عدة أبرزها الأحداث التي جعلت معظم الأقليات السورية تشعر بالاستهداف من قبل جماعات السلطة الجديدة.
يسري ذلك على لبنان الذي لم يخرج من حربه مع إسرائيل، حيث يتم استهداف الجنوب يوميًا وتم استهداف الضاحية الجنوبية أكثر من مرة. ويجد المسلمون السنة أنفسهم خارج التمثيل السياسي التقليدي في ضوء استمرار قرار اقصاء سعد الحريري عن العمل السياسي. وأتت الانتخابات البلدية في طرابلس قبل أسبوع نموذجاً للاقصاء الذي أصاب المسيحيين في غياب “الضامن التقليدي”.. كل هذا جعل المواطنين في حالة من الخوف والضياع. ففضّلوا التوافق بين جلّاديهم على أي محاسبة بشّرتهم بها قوى التغيير.
وما نشهده من تحولات دولية وإقليمية نحو يمين أكثر تشددًا ونهاية للنيوليبرالية الواهية، لا يُعفي قوى التغيير من تحمل مسؤولية سوء الأداء والادارة. فقد احتل اللبنانيون/ات الساحات رافعين الشعارات ذاتها في شتى المناطق مطالبين بمحاسبة الطبقة السياسية كلها، وتجلت خلالها وحدة غير مسبوقة. غير أن عوامل عديدة أدت إلى فشل ثورة 17 تشرين، ومن أوصلتهم من ممثليها إلى سدة المجلس النيابي؛ هؤلاء لم يحسنوا الأداء بل قدموا نموذجاً لا يُقتدى به بسبب خلافاتهم وفرديتهم وبعدهم عن تقديم نموذج سياسي تغييري بديل. ومن أبسط الأمور قيام جبهة تغييرية واضحة المبادىء تعمل على بناء تنظيم افتقدته الثورة ليُبنى عليه حاضراً ومستقبلاً.
وفيما فهمت الأحزاب الطائفية هموم ومخاوف المواطنين لا بل غذّتها لتبرر إعادة انتاج مجلس بلدي شبيه بالحالي تحت شعار واحد وهو الحفاظ على المناصفة، قام التغييريون بمسار معاكس. هم أرادوها معركة مع “السلطة” وطرحوا شعارات محاسبة شركة “سوليدير” والمجلس البلدي السابق. كذلك كان من اللافت للانتباه أن التغييرين لم يبنوا على وصول عهد جديد برئاسة جوزاف عون (ومعه حكومة جديدة برئاسة نواف سلام). أضف الى ذلك، انحصر “إئتلاف بيروت مدينتي” بنائبين فعليًا هما بولا يعقوبيان بما تُمثل في دائرة بيروت الأولى وإبراهيم منيمنة بما يُمثل في دائرة بيروت الثانية، فيما تم استبعاد النائب وضّاح صادق وشخصيات بيروتية تغييرية. جاءت لائحة “بيروت مدينتي” لتضم وجوها من تكنوقراط غير معروفين لدى الناخبين في استعادة لتجربة “بيروت مدينتي” 2016 ما أتاح للأحزاب تشكيل لائحة استعادت بعض أسماء المجلس الحالي الذي ثبت فشله. ولعل سقوط نائب رئيس المجلس البلدي الحالي إيلي أندريا المدعوم من راعي ابرشية بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، والذي ستظهر النتائج أنه سقط في عقر داره بسبب تشطيب الأرثوذكس تحديدًا لمرشح مطرانهم هو الثمن الوحيد لهذا الاستهتار الممارس من قبل الأحزاب بحق ناخبيهم. ففيما تتحالف الأحزاب الطائفية في أوسع مروحة، لأنها علمت ان المطلب الأساسي للمواطن هو طمأنته عبر التوافق فيما بينها وبالإبقاء على ما هو عليه، تصرفت قوى التغيير عكس ذلك منغلقة على نفسها ومستبعدة أي أسماء وازنة في الشارع البيروتي. ومن الواضح أن النائبين يعقويبان ومنيمنة خاضا معركة البلدية بأجندة نيابية، وربما أبعد من ذلك سياسياً.
هل تكون نتيجة انتخابات العاصمة درسًا في السياسة، ودفعًا لفهم الناخبين وهواجسهم والتوقف عن اسقاط المشاريع والأولويات عليهم؟
كثر يتهمون الناخبين بسبب نتائج الانتخابات فيما الأمثل هو احترام خيارات الناخبين أولاً والانطلاق منه ثانية عبر الكف عن التهكم عليهم بل أخذ العبرة من وعيهم الجماعي الذي هو أذكى في فهم الواقع الذي يعيشونه ويخشون من تحولاته.
إنه زمن الخوف والتحولات الكبرى، لا زمن التغيير “الأكاديمي”!