

هذا الثقل الجيوسياسي جعل من إيران هدفًا دائمًا لإسرائيل، التي ترى في النظام الإيراني تهديدًا وجوديًا مباشرًا، ليس فقط بسبب البرنامج النووي، بل أيضًا نتيجة الدعم الممنهج لحركات المقاومة التي تصنفها كمنظمات إرهابية، وعلى رأسها حزب الله في لبنان وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأنصار الله في اليمن.
من هنا تتبلور في الأفق رؤية استراتيجية تتبناها بعض الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وتهدف إلى إسقاط النظام الإيراني، إما عن طريق تدخل أمريكي مباشر أو عبر تحالفات تكتيكية. وقد وجدت هذه الرؤية لحظة مواتية خلال فترة الحكم السابقة للرئيس دونالد ترامب، الذي انسحب من الاتفاق النووي في العام 2018 وشنّ سياسة “الضغوط القصوى” على طهران ما فتح الباب أمام فكرة إسقاط النظام كخيار استراتيجي قابل للتحقيق. هذه الرؤية شهدنا للمرة الثانية فصلاً من فصولها مع قرار إدارة ترامب في الأيام الماضية بالانخراط في الحرب التي تشنها إسرائيل ضد الجمهورية الإسلامية في إيران.. وأفضت في خواتيمها الرجراجة إلى إعلان ترامب نفسه أنه لا يريد أن يرى تغييراً للنظام في إيران!
من الناحية العملية، فإن سيناريو إسقاط النظام لا يُفترض أن يتم عبر غزو بري شامل كما حصل في العراق عام 2003، بل من خلال عمليات جوية وصاروخية دقيقة تستهدف البنية التحتية العسكرية والنووية، على شاكلة ما شهدنا من غارات أميركية استهدفت منشآت فوردو ونتانز وأصفهان، وسبقتها هجمات إسرائيلية كان الأخطر بينها استهداف منظومة القيادة والتحكم والسيطرة في ساعات الحرب الأولى. ترافق ذلك مع هجمات سيبرانية مدمّرة، وكان مأمولاً تحريك مجموعات داخلية معارضة في الأطراف القومية والمذهبية المهمشة، مثل الأكراد في الشمال الغربي، والبلوش في الجنوب الشرقي، والعرب في الأحواز. هذه الخطوات كان يُراد لها أن تُحدث هزّة عنيفة في بنية النظام، وفي الوقت نفسه تُعرّض الدولة الإيرانية لخطر التفكك والانهيار الكامل.
إسقاط النظام الإيراني بالقوة قد يبدو في ظاهره نصرًا سريعًا، لكنه في حقيقته قد يكون الشرارة التي تُفجّر الشرق الأوسط لعقود قادمة، وتُعيد رسم خرائطه من جديد بطريقة دامية لا يمكن التحكم بمآلاتها
***
إن سقوط نظام مركزي في دولة معقدة التركيب كإيران، دون وجود بديل وطني منظم، ينذر بتكرار سيناريوهات كارثية كتلك التي شهدناها في العراق وليبيا، ولكن بأبعاد أوسع وأكثر دموية. فإيران ليست مجرد دولة قومية، بل كيان يتشابك فيه العرقي والمذهبي والقبلي والسياسي، وسقوط المركز قد يطلق موجة من الصراعات الداخلية بين المكونات المختلفة، ويحوّل الجمهورية الإسلامية إلى ساحة مفتوحة لحروب أهلية وأطماع خارجية.
على المستوى الإقليمي، أدرك الجميع أن سقوط النظام الإيراني سيكون له أثره المتفجر. فحلفاء طهران المنتشرون عبر المنطقة لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيحوّلون ساحات نفوذهم إلى جبهات مواجهة مع خصومهم. حزب الله في لبنان سيصعّد على الحدود مع إسرائيل، بينما سيشنّ الحوثيون هجمات موسعة ضد البنية التحتية السعودية والإماراتية. في العراق، ستتحرك الفصائل المسلحة ضد المصالح الأمريكية والخليجية، وقد ينزلق الوضع إلى فوضى مشابهة لحرب المدن.
أما على الصعيد الدولي، فإن المضائق الحيوية كمضيق هرمز ستكون في عين العاصفة. أي تصعيد هناك سيقطع شرايين النفط نحو العالم، ويرفع أسعار الطاقة بشكل يُهدّد الاستقرار الاقتصادي العالمي. بالتوازي، ستراقب كل من روسيا والصين تطورات الوضع عن كثب، وقد تتدخلان إذا شعرتا أن مصالحهما الاستراتيجية مهددة، مما يزيد من احتمال دخول الشرق الأوسط في صراع جيوسياسي دولي مفتوح.
***
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد وربما أدرك بنيامين نتنياهو هذه الحقيقة بسبب دقة الإصابات الصاروخية الإيرانية في قلب الكيان العبري، فإسرائيل التي تمتلك منشآت نووية حساسة، قد تجد نفسها في دائرة استهداف إيراني انتقامي، خصوصًا إذا قررت طهران استخدام قدراتها الصاروخية لتعطيل أو إلحاق ضرر بالقدرات النووية الإسرائيلية في ديمونا. بالمقابل، لن تتردد تل أبيب في رفع وتيرة توجيه ضربات عسكرية تستهدف منشآت نووية حساسة مما قد يؤدي إلى تصعيد غير مسبوق، يحول الصراع إلى مواجهة شاملة ذات أبعاد استراتيجية خطيرة تتجاوز حدود المنطقة وتحولها إلى ساحة حرب شاملة.
التحدي الأكبر في هذا السيناريو لا يتمثل فقط في إسقاط النظام، بل في ما بعده. غياب معارضة إيرانية موحدة أو مشروع بديل واضح قد يفتح الباب أمام جماعات مسلحة، أو تقسيم فعلي للأراضي الإيرانية، أو حتى ظهور “داعش شيعي” بلباس جديد، مستفيد من الفوضى والفراغ، تمامًا كما حصل في العراق وسوريا. وهو ما يجعل فكرة التدخل العسكري، برغم جاذبيتها لبعض النخب السياسية الغربية، مقامرة جيوسياسية محفوفة بالمخاطر.
إن رؤية استراتيجية أميركية – إسرائيلية لا يمكن أن تقوم على المغامرة العسكرية وحدها، بل تتطلب تراكب أدوات القوة الذكية: ضغط دبلوماسي واقتصادي، دعم ناعم لحركات الإصلاح الداخلي، تحييد الخصوم الدوليين، وخلق مسار تفاوضي طويل الأمد يضمن تعديل سلوك النظام دون تقويض الدولة، وهذه الأدوات والأوراق لطالما استخدمها الأميركيون في العقود الأخيرة، ولكنها لم تحقق الهدف المنشود، وهذا الأمر يسري على الحرب الأخيرة التي زادت من التفاف الشارع الإيراني حول القيادة.
حسناً فعل دونالد ترامب أن قرّر التريث.. ولو أن مآلات تعامل الإيرانيين مع الأميركيين ستكون محكومة منذ الآن فصاعداً بعنصر الخديعة الذي تعرضوا له، عندما كانوا يستعدون للتوجه إلى الجولة السادسة من المفاوضات مع واشنطن في العاصمة العُمانية، ليتبين قبل ساعات قليلة من التئامها أن البيت الأبيض الأميركي أعطى لنتنياهو الضوء الأخضر لشن حربه ضد إيران.
في الخلاصة، إن إسقاط النظام الإيراني بالقوة قد يبدو في ظاهره نصرًا سريعًا، لكنه في حقيقته قد يكون الشرارة التي تُفجّر الشرق الأوسط لعقود قادمة، وتُعيد رسم خرائطه من جديد بطريقة دامية لا يمكن التحكم بمآلاتها.