

القانون مرآة للضمير الجمعيّ
ينظر البعض إلى القانون من منظور إميل دوركهايم على أنّه تجسيدٌ للضمير الجمعيّ للمجتمع، أي مجموعة القيم والمعتقدات والمشاعر المشتركة التي تربط أفراده. في هذا السياق، يعتبر القانون الأخلاقيّ هو الذي يعكس هذا الإجماع الاجتماعيّ، ويقوم بتجريم الأفعال التي تهدّد التماسك الاجتماعي والسِّلم العام. على سبيل المثال، قوانين تجريم القتل، والسرقة، والتحريض على الكراهية ليست مجرّد قواعد إجرائية، بل هي ترجمةٌ قانونيةٌ لمبادئ أخلاقية يتّفق عليها المجتمع كأساسٍ للوجود المشترك. هنا، يكون القانون أداة إيجابية، غايتها حماية الفرد والمجتمع من الأضرار الواضحة.
القانون كأداة للسلطة والسيطرة
في المقابل، يرى مفكرون مثل ميشيل فوكو أنّ القانون ليس دومًا انعكاسًا للضمير الجمعيّ، بل هو في كثيرٍ من الأحيان أداة للسلطة لفرض السيطرة وتحديد المعايير الاجتماعية. يجادل فوكو في أعماله بأنّ السلطة لا تُمارَس فقط من خلال القمع المباشر، بل أيضًا من خلال “سلطة المعرفة” التي تحدّد ما هو طبيعي وما هو شاذ؛ ما هو أخلاقيّ وما هو غير أخلاقيّ. في هذا الإطار، يمكن للقوانين أن تصبح وسيلةً لتكريس هيمنة فئةٍ معيّنة، أو قمع الأصوات المخالفة، تحت ستار الحفاظ على “النّظام” أو “الآداب العامة”.
في مجتمع متعدّد القيم، يجب أن تكون القوانين التي تفرض قيودًا أخلاقية مبنية على إجماعٍ واسعٍ لا يهمّش الأقليات، وإلا فإنها تكون أقرب إلى القمع منها إلى حماية الأخلاق. ويبقى المعيار الأهمّ هو أن تَسْتَخدَم السلطات القانون بشكلٍ انتقائيٍّ ضدّ المعارضين أو الفئات المهمّشة، وتتجاهل نفس الانتهاكات عندما ترتكبها فئاتٌ أخرى. ذلك إن حصل هو دليلٌ واضحٌ على أنّ القانون قد تحوّل إلى أداةٍ للقمع
إنّ التحوّل من حماية الأخلاق إلى القمع باسم القانون يبدأ عندما تصبح المصطلحات القانونية غامضة وفضفاضة. فعندما يُصاغ القانون بعباراتٍ مثل “الإخلال بالآداب العامة” أو “الإساءة إلى الشعور الدينيّ” دون تعريفات واضحة ومحدّدة، فهو بذلك يمنح السلطة التنفيذية والقضائية سلطة تقديرية واسعة، يمكن استخدامها بشكلٍ انتقائيٍّ لاستهداف المعارضين أو الأفراد الذين لا يمتثلون للنموذج الاجتماعيّ المفروض.
القانون كأداة للرأسمالية النيوليبرالية
في السياق الحديث، يمكن أن تُفهَم القوانين المتعلّقة بالأخلاق ليس فقط كأداةٍ للسيطرة السياسية أو للحفاظ على “الضمير الجمعيّ”، بل كجزءٍ من بنية السّلطة الرأسمالية النيوليبرالية. يرى علماء اجتماع مثل ويليام سيوال جونيور أنّ القوانين في العصر الحديث تُستَخدَمُ لتعزيز مصالح النخبة الاقتصادية وتكريس نظامٍ رأسماليٍّ عالميّ. في هذا الإطار، يمكن أن تُستَخدَمَ قوانين “الأخلاق” لضبط سلوك الأفراد وتوجيههم نحو نموذجٍ استهلاكيٍّ معيّن، أو لتقييد الحركات الاجتماعية التي قد تهدّد المصالح الاقتصادية. على سبيل المثال، قد تُستَخدَمُ قوانين تفرض “الآداب العامة” أو “النموذج الأخلاقيّ” لتقييد حقّ النشطاء البيئيين في التظاهر أو الاحتجاج السلميّ، بحجة أنّ ذلك يخلّ بالنّظام العام ويعطّل حركة المرور أو يعيق الأنشطة التجارية، أو الانتاجية. هنا، لا يكون القانون مجرّد انعكاسٍ لقيم أخلاقية، بل هو أداةٌ لحماية رأس المال من الاضطرابات الاجتماعية.
سيولة المعايير
يضيف المنظّر السوسيولوجي زيجمونت باومان منظورًا مهمًّا في نقاشه حول “الحداثة السائلة”، فيرى أنّ المجتمع المعاصر يتّسم بـسيولة المعايير والقيم، حيث لم تعد هناك مرجعية أخلاقية ثابتة أو “ضميرٌ جمعيٌّ” موحّد كما تَصَوَّره دوركهايم. في هذا العالم، يصبح القانون أكثر أهمية ليس كأداةٍ لفرض أخلاقٍ متّفق عليها، بل كآليةٍ لتنظيم التّعايش بين أفرادٍ ومجموعاتٍ تحمل قيمًا وأخلاقًا متباينة. عندما تُستَخدَمُ القوانين في هذا السياق لتفرض أخلاقًا محدّدةً على الجميع، فإنها لا تخدم هدفًا أخلاقيًا بالمعنى الحقيقيّ، بل تتحوّل إلى أداةٍ لفرض سلطة الأغلبية على الأقليات، أو لفرض النموذج الاجتماعي الذي تروّج له السلطة. وهذا يثير تساؤلاً جوهريًا: هل يجب أن تُفرَض الأخلاق عبر القانون في مجتمع لم يعد يمتلك مرجعية أخلاقية واحدة؟ يرى باومان أن هذا النوع من القوانين غالبًا ما يؤدّي إلى تهميشٍ وإقصاء، بدلاً من تحقيق التماسك الاجتماعيّ.
القانون والمراقبة في العصر الرقمي
تُضيف التطورات التكنولوجية الحديثة طبقةً جديدةً من التّعقيد لهذه المسألة. يرى العديد من السوسيولوجيين، مثل مانويل كاستلز في أعماله عن “مجتمع الشبكة”، أنّ القانون أصبح يتفاعل مع آليات مراقبةٍ جديدةٍ تتجاوز الأشكال التقليدية للضبط. في العصر الرقميّ، يمكن للسلطات أن تستخدم القانون لشرعنة مراقبة واسعة النطاق لسلوك الأفراد على الإنترنت، بما في ذلك ما يعتبرونه “أخلاقيًا” أو “غير أخلاقيٍّ” من محتوى. ففي هذا السّياق، يمكن أن تُستَخدَمَ قوانين غامضة حول “الأخلاق الرقمية” أو “الآداب العامة على الإنترنت” لتبرير المراقبة الجماعية، وتكميم أفواه المعارضين عبر الإنترنت أو الذين يعتبرهم المجتمع خارجين عن سياقه وسلوكياته المُفْتَرَضَة. إنّ هذه المراقبة لا تهدف فقط إلى منع “الأفعال غير الأخلاقية”، بل تهدف إلى خلق نمطٍ من السّلوك مرغوبٍ فيه من قبل السلطة، من خلال التهديد بالعقاب القانوني. يصبح القانون هنا أداة لإدارة السلوك، وليس فقط لفضّ النزاعات.
القانون والعدالة
في الخلاصة، لم تعد الحدود الفاصلة بين القانون الأخلاقيّ والقمع القانونيّ بسيطة كما كانت في الماضي، ولم يعد الأمر يقتصر على نيّة المشرّع أو وضوح النصّ القانونيّ، بل يتضمن عوامل أكثر تعقيدًا. ففي مجتمع متعدّد القيم، يجب أن تكون القوانين التي تفرض قيودًا أخلاقية مبنية على إجماعٍ واسعٍ لا يهمّش الأقليات، وإلا فإنها تكون أقرب إلى القمع منها إلى حماية الأخلاق. ويبقى المعيار الأهمّ هو أن تَسْتَخدَم السلطات القانون بشكلٍ انتقائيٍّ ضدّ المعارضين أو الفئات المهمّشة، وتتجاهل نفس الانتهاكات عندما ترتكبها فئاتٌ أخرى. ذلك إن حصل هو دليلٌ واضحٌ على أنّ القانون قد تحوّل إلى أداةٍ للقمع. علاوة على ذلك، يجب أن تُصاغَ القوانين التي تتعلق بالأخلاق بأسلوبٍ يحترم ويحمي الحقوق الأساسية للأفراد ويحدّد بشكلٍ واضح لا جدال فيه ما هو مسموح وما هو ممنوع، وإلا فإنّه غالبًا ما يكون أداةً للقمع. إنّ فهم هذه الحدود المعقّدة هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمعٍ عادلٍ وقانونيّ.