

يدفع فى هذا الاتجاه ازدياد حالة الحصار الدبلوماسى التى تواجهها إسرائيل بسبب حربها المفتوحة على غزة، واعتمادها بشكل شبه كلى على الموقف الأمريكى الداعم لها وبالتالى عدم قدرتها على رفض خطة ترامب وإسقاطها وتحمل تداعيات ذلك. قمة شرم الشيخ أيضاً تشكل عنصر ضغط إضافيا فى هذا الاتجاه.
وللتذكير فإن قمة شرم الشيخ وفق رؤية المشاركين فيها ــــ باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية ــــ تربط بين إطلاق تنفيذ خطة ترامب وإدراج ذلك فى الذهاب نحو تسوية حل الدولتين حسب بيان “قمة نيويورك» الأخير. ولا بد من الإشارة فى هذا الصدد إلى أن خطة ترامب (البند ١٩) تشير بعد تعداد عدد من الشروط الواجب توافرها إلى ما يلى: «قد تتهيأ الظروف أخيرا لفتح مسار ذى مصداقية نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية». موقف يهدف لملاقاة الآخرين بشكل غير مبدئى وغير ملزم ويفتح الباب لشروط مختلفة وقابل للتملص منه بصيغ وأعذار ومعطيات متعددة.
أما الشروط التى تطرحها الخطة الأمريكية والتى تقوم على إلغاء كلى لدور الفصائل الفلسطينية المختلفة، حماس وغيرها و«لتنظيف غزة» من السلاح وجميع البنى العسكرية وغيرها التى قد تسمح بالمقاومة فى مرحلة قادمة، فإنها ستؤدى دون شك إلى مزيد من التعقيدات مستقبلاً فى مسار الاستقرار الضرورى والمطلوب لإعادة الحياة الطبيعية (هذا إذا أمكن تسميتها بذلك) إلى القطاع. ولا بد من التذكير أنه بالنسبة إلى السياسة الإسرائيلية فإن المطلوب فك الارتباط العضوى فى حقيقة الأمر وفى الواقع بين قطاع غزة والضفة الغربية.
***
فى المنظور الإسرائيلى الفعلى يجرى الحديث عن شعبين مختلفين لا يفترض أن تكون هنالك علاقة تأثر أو تأثير بينهما. يعكس ذلك بالطبع الرؤية الإسرائيلية الحاكمة حالياً والتى تعتبر أن غزة هى مشكلة أمنية بالنسبة لها فيما الضفة الغربية هى جزء من دولة إسرائيل الكبرى، إسرائيل التاريخية، التى يجرى إعادة بنائها وتحقيق ذلك بقوة وبسرعة. عناصر كثيرة تحمل تحديات للمرحلة الثانية فى خطة ترامب، هذا إذا ما حدثت، أيضاً، تعثرات فى المرحلة الأولى بعد عملية الانطلاق وخلال مسار التنفيذ..
ويمكن اختصار الاستراتيجية الإسرائيلية فى هذا الخصوص كما يلى: إن المطلوب تحييد غزة كلياً عن تطورات الصراع فى الضفة الغربية التى ستزداد تصعيداً وعنفاً من طرف إسرائيل كما هو واضح فى سياسة استكمال الضم الفعلى للضفة الغربية من دون الإعلان عن «الضم الرسمى» تجاوباً مع مطلب الرئيس الأمريكى. لكن هذا الأمر يبقى بعيداً كل البعد عن الواقع الفلسطينى، فيمكن إحداث تقطيع بالقوة فى الجغرافيا الوطنية لشعب معين، الشعب الفلسطينى فى هذه الحالة، ولكن لا يمكن إحداث انفصال فى الهوية الوطنية لشعب معين- الشعب الفلسطينى فى هذه الحالة- وما تحمله هذه الهوية من مشاعر تضامنية تنعكس بالطبع فى سلوكيات فردية وجماعية. هذا الأمر من أهم دروس التاريخ: تاريخ الأمم التى عاشت تحت الاحتلال.
***
عملية حكم غزة فى فترة انتقالية مفتوحة فى الزمان عبر مستويين فى بنية السلطة المطلوب إقامتها: مستوى إدارى تنظيمى للحياة تكون فلسطينية ومستوى إدارة وإشراف سياسى، بالمعنى الواسع والعام والشامل للسياسة، تكون دولية بإدارة الرئيس الأمريكى ومشاركة رؤساء دول وشخصيات أخرى. نجاح مسار من هذا النوع برغم تعقيداته يجب أن يرتبط بشكل واضح وحازم بخريطة طريق وجدول زمنى محدد ولو مرنًا يؤدى إلى تحقيق قيام الدولة الفلسطينية (حل الدولتين) مما يسهل إنجاح هذا المسار. وتوفير الدعم الفعلى له على أرض الواقع وهذا بالطبع ما لا تلحظه الخطة الأمريكية وهو ما سيزيد من التعقيدات أمام إنجاحها على المدى المتوسط والطويل.
نقطة أخيرة لا بد من التأكيد عليها وهى أن إسرائيل ستجد نفسها أكثر قدرة بعد التخلص النسبى من «أعباء وأثقال» حرب غزة لتعزيز حربها على لبنان المستمرة والمتزايدة منذ اتفاق وقف القتال الذى تم التوصل إليه فى 27 تشرين الثانى/نوفمبر الفائت، وكأنما هذا الاتفاق يُطبّق بشكل أحادى على لبنان وإسرائيل غير معنية بتنفيذه.. وهذا موضوع لحديث آخر.
(*) بالتزامن مع “الشروق“