لبنان نحو تخلّف أُحادي عن سداد اليوروبوند.. ماذا بعد؟

علي نورعلي نور05/03/2020
من المتوقّع أن يعلن لبنان، رسمياً، بلسان رئيس حكومته حسان دياب، في ختام الأسبوع الحالي، التخلّف عن سداد الدفعة الأولى من سندات اليوروبوند المستحقة في التاسع من آذار/مارس 2020. وبحسب المعلومات المتوفّرة، فقد تعثّرت مساعي الدولة اللبنانيّة للتوصّل إلى إتفاق مع الدائنين يقضي بإعادة جدولة السندات، وهو ما كان يمكن أن يشكّل، لو نجح، عبارة عن "تخلّف منظّم" أو تخلف متفق عليه عن السداد. وبالتالي، يتجه لبنان عمليّاً إلى تخلّف أحادي عن الدفع، أو ما يُعرف بـ"التخلّف غير المنظّم"، مع كل ما يعنيه ذلك من إستحقاقات قانونيّة مقبلة، وإرتدادات على الواقع النقدي والمالي وربما السياسي في المرحلة المقبلة.

عرقلة الدائنين الأجانب

بحسب العقود التي تنظّم علاقة الدولة مع حاملي سندات اليوروبوند، من المفترض أن تنال الدولة اللبنانيّة موافقة حملة أكثر من 75% من سندات اليوروبوند، لأي شريحة من شرائح السندات التي تعيد إعادة جدولتها. أمّا إذا أرادت الدولة الشروع في عمليّة إعادة هيكلة شاملة للدين، فهي تحتاج – وفقاً لهذه القاعدة – إلى موافقة حملة أكثر من 75% من سندات اليوروبوند لكل شريحة على حدة. وبالتالي، فإن تحقيق هذا الشرط يمكن أن يشكّل تخلّفاً منظّما، عن السداد. أمّا إذا فشلت الدولة في تأمين موافقة حملة هذه النسبة من السندات، وتوجّهت إلى التخلّف عن السداد، فتكون الدولة أمام خيار التخلّف غير المنظّم أو الأحادي عن السداد.

سعت الدولة اللبنانيّة في الفترة الماضية إلى التوصّل لإتفاق مع حملة سندات كل شريحة من شرائح اليوروبوند لإعادة جدولة هذه السندات، وتحديداً تلك التي تستحق خلال سنة 2020 في أشهر آذار/مارس (وهي بقيمة 1.2 مليار دولار) ونيسان/أبريل (بقيمة 700 مليون دولار) وحزيران/يونيو (بقيمة 600 مليون دولار). لكنّ هذا المسعى إصطدم بمعارضة حملة السندات الأجانب، وتحديداً مع صندوق “أشمور” الإستثماري، الذي أصر على سداد السندات التي تستحق خلال شهر آذار/مارس، قبل الشروع بأي تفاوض على السندات التي تستحق خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.

في الواقع، كان “أشمور” قد حضّر نفسه جيّداً لهذه اللحظة من فترة، حين عمل على شراء المزيد من سندات اليوروبوند من المصارف المحليّة وضمّها إلى محفظته. وبذلك سعى الصندوق للحصول على “الربع المعطّل” لكل شريحة من شرائح سندات اليوروبوند التي تستحق هذه السنة، وهي النسبة التي يحتاجها لعرقلة أي مسعى يمكن أن تقوم به الدولة اللبنانيّة لإعادة جدولة أي شريحة من شرائح اليوروبوند. وفي الوقت نفسه، كان الصندوق يراهن على إمكانيّة الضغط على الحكومة من خلال رفض إعادة الجدولة، ودفعها إلى سداد قيمة السندات، وهو ما يمكّنه من تحقيق أرباح كبيرة خصوصاً أن الصندوق إشترى السندات العالية المخاطر بأثمان بخسة من المصارف اللبنانيّة.

من سهّل مهمّة “أشمور”؟

قبل بدء الحديث عن مسألة إعادة جدولة السندات التي تستحق خلال شهر آذار/مارس الحالي، لم تكن المصارف وصناديق الإستثمار الأجنبيّة تملك أكثر من ربع قيمة السندات التي تستحق خلال هذا الشهر، وذلك بحسب الأرقام التي نشرتها “الشركة الدوليّة للمعلومات”. وفي المقابل، كانت المصارف اللبنانية المحليّة تملك ما قيمته 900 مليون دولار من هذه السندات، من أصل 1,200 مليون دولار. وبالتالي، كان من الممكن وفق هذه الأرقام التوصّل إلى تفاهم على إعادة جدولة السندات التي تستحق خلال شهر آذار/مارس من خلال الإتفاق مع حملة السندات المحليين. وفي أسوأ الحالات، كان يكفي ضم عدد محدود جداً من حملة السندات الأجانب إلى الإتفاق مع حملة السندات المحليين ليصبح الإتفاق نافذاً.

إرتفعت فجأة نسبة السندات التي يملكها الدائنون الأجانب، لتتجاوز أكثر من 70%. وهكذا، خرجت مسألة قرار إعادة جدولة الشريحة من نطاق السيطرة المحليّة، ليصبح لدى الدائنين الأجانب وبالأخص “أشمور” القدرة على فرض “الفيتو” في ما يخص هذا القرار

لكنّ مع بدء الحديث عن مقترحات لإعادة جدولة هذه السندات، إرتفعت فجأة نسبة السندات التي يملكها الدائنون الأجانب، لتتجاوز أكثر من 70%. وهكذا، خرجت مسألة قرار إعادة جدولة الشريحة من نطاق السيطرة المحليّة، ليصبح لدى الدائنين الأجانب وبالأخص “أشمور” القدرة على فرض “الفيتو” في ما يخص هذا القرار. مع العلم أن حصّة “أشمور” وحدها إرتفعت لتلامس حدود الــ 25.3% من قيمة السندات التي تستحق خلال شهر آذار/مارس، وهو ما أعطاه وحده حق النقض لأي إتفاق ممكن أن تطرحه الدولة لإعادة جدولة السندات.

غاية المصارف المحليّة من خلال هذه الخطوة كانت مزدوجة. من ناحية، أرادت المصارف تأمين السيولة في الوقت الراهن وتفادي الدخول في عمليّة إعادة الجدولة التي كان يتم الحديث عنها. مع العلم أن بيع السندات لصالح صناديق إستثماريّة أجنبيّة مكّنها من تحويل جزء من موجوداتها من سندات يوروبوند صادرة عن الدولة اللبنانيّة إلى سيولة في مصارف أجنبيّة، أي أنّها تمكّنت من تحويل جزء من موجوداتها للخارج. ومن ناحية أخرى، تشير بعض الآراء إلى إستفادة المصارف اللبنانيّة من زيادة حصّة الأجانب من سندات اليوروبوند، من خلال الضغط على الدولة للذهاب بإتجاه دفع قيمة السندات وتفادي سيناريو إعادة الجدولة، خصوصاً أن الدائنين الأجانب يملكون قدرة تفاوضيّة أكبر مع الدولة اللبنانيّة في ما يخص هذا الإستحقاق. زدْ على ذلك، رغبة أصحاب المصارف في تحقيق أرباح ولو على حساب مصلحة الدولة اللبنانية والمودعين، برغم واقع الأزمة المالية والنقدية غير المسبوقة في تاريخ لبنان.

في كل الحالات، وبعض النظر عن غاية المصارف من هذه الخطوة، والسبب الفعلي لغياب أي تدخّل من مصرف لبنان في هذه العمليّة، ولو بمجرد تعميم أو قرار، كانت النتيجة الطبيعيّة تعثّر مسار إعادة الجدولة من جهة، وزيادة التعقيدات على مسار تخلّف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند، من جهة أخرى.

تبعات قانونيّة

ثمّة تداعيات متوقّعة لمسألة التخلّف عن السداد، وبالأخص عند الحديث عن سيناريوهات التخلّف غير المنظّم، سواء من النواحي الماليّة أو القانونيّة. ولعلّ السؤال الأوّل الذي يتم طرحه، في هذا السياق، يتعلّق بمصير الموجودات التي تخص الدولة اللبنانيّة ومصرف لبنان في الخارج، خصوصاً بوجود جزء كبير من موجودات البنك المركزي في الولايات المتحدة الأميركيّة، سواء على شكل توظيفات ماليّة أو جزء من إحتياطي الذهب، فيما تنص عقود سندات اليوروبوند على تخلّي الدولة اللبنانيّة عن حصانتها في المحاكم الأجنبيّة، وخصوصاً محاكم نيويورك.

إقرأ على موقع 180  سهيل القش.. عندما تتشظى مرآته "اللبنانوية"!

من الناحية القانونيّة، وفي حال عدم التوصّل إلى تسوية مع الدائنين، من المتوقّع أن يسعى هؤلاء إلى مقاضاة لبنان في المحاكم الأميركيّة تحديداً، للضغط عبر محاولة الحجز على أصول الدولة اللبنانيّة ومصرف لبنان في الخارج. وبينما تخضع جميع أملاك الجمهوريّة اللبنانيّة ذات الطابع غير التجاري، كمباني السفارات مثلاً، إلى مبدأ الحصانة السياديّة، ستكون الموجودات العائدة إلى مصرف لبنان تحديداً عرضة إلى هذه الضغوط. وهنا يعود للمحاكم الأميركيّة تقدير الموقف وتقييم طبيعة الموجودات العائدة لمصرف لبنان، من ناحية إعتبارها موجودات ذات طابع تجاري أم موجودات يحتفظ بها المصرف المركزي لتنفيذ مهمّاته التقليديّة. مع العلم أن المحاكم الأميركيّة تعترف بخصوصيّة موجودات المصارف المركزيّة، وتميّزها عن الموجودات السياديّة الأخرى، لكنّ هذه الحصانة محدودة بطبيعة إستعمالها ضمن المهمّات التقليديّة للمصارف المركزيّة.

ثمّة محاولات حثيثة للتوصّل إلى تسوية ربع الساعة الأخير التي يمكن أن تنقذ الموقف، وتبعد عن لبنان تجربة التخلّف الأحادي عن السداد، دون أن يتم إستعمال إحتياطي العملات الصعبة لدى مصرف لبنان الذي تعتبره الحكومة بمثابة “خط أحمر” لا يجوز المس به

وهكذا، وفي حال تحقق هذا السيناريو، سيكون الدفاع عن الموجودات العائدة للمصرف المركزي والدولة اللبنانيّة في الخارج في طليعة مهمّات المكتب الإستشاري القانوني “كليري غوثليب”، خصوصاً أن هامش الإجتهاد مفتوح أمام المحاكم الأميركية في تصنيف الموجودات السياديّة اللبنانيّة، وبالأخص تلك التي تخص مصرف لبنان المركزي.

تبعات مالية

من الناحية الماليّة، من الطبيعي أن يؤدّي الذهاب إلى تعثّر أحادي وغير منظم إلى تدهور التصنيف الإئتماني للبنان بوصفه بلد متعثّر، لكنّ بعض التحليلات ذهبت فعليّاً إلى المبالغة في توصيف أثر هذا التدهور. فلبنان عاجز أساساً منذ فترة عن إصدار سندات مقوّمة بالعملات الصعبة، نظراً لعدم توفّر الطلب الخارجي وعدم تمتّع المصارف اللبنانيّة بالسيولة اللازمة للإكتتاب بهذه السندات، وهو ما كان يدفع المصرف المركزي إلى التدخّل في كل مرّة لإعادة تمويل سندات اليوروبوند عند الإستحقاق. أمّا المصارف اللبنانيّة، فهي تعاني منذ 17 تشرين الأوّل/أكتوبر من توقّف التدفقات الخارجيّة، وهي تمارس منذ ذلك الوقت ضوابط مشددة على السيولة تحول دون الضغط على عمليّات السحب أو التحويل إلى الخارج. وبهذا المعنى، فإن النظام المالي اللبناني يعاني أساساً من عوارض الإنهيار القاسي التي يحذّر منها البعض. أمّا ما سيستجد فعليّاً مع تراجع التصنيف الإئتماني (إلى default) فهو تراجع قدرة المصارف المحلية بالحصول على تسهيلات وازنة لدى المصارف المراسلة، ومنها تلك التي ترتبط بتمويل وضمان الإعتمادات المستنديّة.

حلول ربع الساعة الأخير

في اللحظات الأخيرة قبل إعلان الحكومة اللبنانيّة تخلّفها عن الإيفاء، وذلك في ضوء تفاهم الثلاثي حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، على عدم دفع الفوائد وعدم دفع أصل الدين، ثمّة محاولات حثيثة للتوصّل إلى تسوية ربع الساعة الأخير التي يمكن أن تنقذ الموقف، وتبعد عن لبنان تجربة التخلّف الأحادي عن السداد، دون أن يتم إستعمال إحتياطي العملات الصعبة لدى مصرف لبنان الذي تعتبره الحكومة بمثابة “خط أحمر” لا يجوز المس به. تركّز آخر المقترحات التي تمّت مناقشتها حول مبادرة المصارف اللبنانيّة إلى تأمين المبالغ المستحقة والمقدرة بنحو 4.6 مليار دولار في العام 2020، من خلال ودائعها في الخارج، وبالتضافر مع كبار المودعين اللبنانيين في الخارج، على أن يتم إستعمال هذه السيولة في الفترة القادمة لإعادة تمويل سندات اليوروبوند التي تستحق. ووفقاً لهذه الصيغة، يمكن تفادي تخفيض التصنيف الإئتماني للبنان، وإبعاد سيناريو التخلّف عن السداد، وفي الوقت نفسه إعادة تمويل السندات من دون المس بإحتياطي العملات الصعبة المتبقي لدى مصرف لبنان.

هذا الخيار يحتاج عمليّاً إلى قرار سياسي وازن على مستوى الدولة اللبنانيّة، لفرض عمليّة إعادة التمويل وفقاً لهذه الصيغة، خصوصاً أن المصارف اللبنانيّة تحاول التملّص من هذه الصيغة، لأنها ترفض تحمل مسؤوليتها التاريخية وتصر على تحقيق الأرباح برغم واقع الأزمة، مع العلم أن آراء معظم الخبراء الماليين تعتبر أن المصارف قادرة على توفير هذا التمويل من الخارج، طالما أن تصنيفها الإئتماني ما زال يسمح بذلك. وثمّة من يعتبر أنّه طالما أنّ المصارف اللبنانيّة ساهمت بشكل من الأشكال في بلوغ هذا المأزق، من خلال عمليّة بيع السندات التي قامت بها إلى الخارج، فمن المفترض أن تكون معنيّة بمحاولة إيجاد المخارج الملائمة لهذه الأزمة، وهذا الأمر يحتاج إلى قرار سياسي كبير، عنوانه محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل بلوغ حافة الخطر الشديد في الأيام والأسابيع المقبلة.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  انسحاب واشنطن من "الأجواء المفتوحة"... تعميق للعداء ضد روسيا؟