“كوفيد-19”: ركود اقتصادي… والآتي أعظم

لم يعد الركود الاقتصادي مجرّد شبح يخيف الحكومات والشركات العابرة للقارات في ظل جائحة كوفيد-19. لقد صار الركود أمراً واقعاً باعتراف صندوق النقد الدولي IMF ومعهد التمويل الدولي IIF، والعالم يستعدّ لما هو أسوأ من الرّكود، ويبحث في كتب التاريخ عن نماذج يمكن الاقتداء بها للخروج من المأزق الناجم عن تعطّل النشاط الاقتصادي في غالبية الدول، ولا سيما تلك التي لجأت إلى طريقة "الحجر" أو "العزل" للحد من انتشار الفيروس.

“العالم دخل في ركود والوضع سيكون أسوأ مما كان عليه عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية”. بهذه الكلمات عبّرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، عن الأزمة الناجمة عن انتشار فيروس “كوفيد-19” في مداخلة عبر الانترنت خلال اجتماع طارئ لرؤساء دول مجموعة العشرين. وقالت إن “التوقف المفاجئ” لنشاط الاقتصاد العالمي يحتاج إلى 2.5 تريليون دولار على الأقل لإنعاش الأسواق الناشئة.

صحيحٌ أن البنوك المركزية والحكومات سخّرت “كامل قوتها” لضخّ السّيولة في الأسواق وحماية اقتصاداتها لكنّ استحالة تحديد موعد انحسار الفيروس وبالتالي موعد الانطلاق بمسيرة التعافي، تزيد القلق من عجز الحكومات والبنوك المركزية عن الصمود، ومن تحوّل الركود إلى كساد، علماً بأن الكساد هو حالة انكماش في النشاط الاقتصادي لفترة طويلة نسبياً وهو أكثر حدّة من الركود الذي يقتصر على تباطؤ الاقتصاد خلال دورة عادية لمدة ربعين متتاليين من السنة.

هل يأخذنا الحديث عن الكساد إلى المقارنة مع ما حدث عام 1929 وعُرِف بالكساد الكبير أو الكساد العظيم واستمر حتى أواخر الثلاثينات؟

يحذّر الخبير في الأسواق المالية والأكاديمي دان قزي من المقارنة العشوائية مع الأزمات السابقة ويشير إلى أن وجود بعض أوجه الشبه لا ينفي اختلاف المسبّبات الأساسية وبالتالي اختلاف طرق المعالجة.

وفي حديث لموقع “180”، قال قزي إن الأزمة الاقتصادية الرّاهنة هي نتيجة مباشرة للتعطيل غير المسبوق الذي فرضته جائحة كوفيد-19 ولم يكن لها مقدّمات أو مؤشرات خلافاً للأزمات الأخرى التي يمكن توقع حدوثها استناداً إلى المؤشرات الاقتصادية والعوامل الموضوعية.

ولفت قزي إلى أن خيار الحجر أو العزل وإجبار المواطنين على المكوث في بيوتهم له أضرار كبيرة على الدورة الاقتصادية ولذلك رفضت دول عديدة وأبرزها السويد اللجوء إليه وفضلت الحفاظ على النشاط الاقتصادي مع التشديد على إجراءات السلامة العامة والوقاية والاتكال على الانضباط الذاتي للأفراد.

دان قزي: الأخطر في الأزمة الراهنة يكمن في أن العالم لا يعرف إلى متى سيحارب هذا الفيروس

وأشار قزي إلى أن التاريخ شهد جائحة ممثالة عام 1918 عُرفت بالانفلونزا الاسبانية التي أصابت نحو 500 مليون شخص توفي منهم 50 مليوناً جرّاء المرض ولكن يصعب تحديد نتائجها المباشرة على الاقتصادات لأنها جاءت بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي تركت آثارها على مختلف القطاعات ولا سيما في أوروبا موضحاً أن الأخطر في الأزمة الراهنة يكمن في أن العالم لا يعرف إلى متى سيحارب هذا الفيروس وإلى متى ستبقى المصانع والمحال التجارية مغلقة، والسفر مُعلّق، والمستشفيات في حالة طوارئ، وما مقدار الضرر الذي سيلحق بسلاسل التوريد، وما عدد الشركات التي ستفلس.

هل يعيد التاريخ نفسه؟

الركود الذي أعقب جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 دام سبعة أشهر فقط. لكنّ أحداً لا يعلم إلى متى سيدوم الركود الحاصل حالياً بسبب عدم العثور على علاج يحدّ من انتشار فيروس كوفيد-19 ويتيح استئناف النشاط الاقتصادي والتعافي من التعطيل. لعلّ هذا ما أعاد إلى أذهان البعض نتائجَ  الكساد الكبير الذي انطلق من الولايات المتحدة عام 1929 مع انهيار بورصة وول ستريت يوم الثلاثاء 29 تشرين الأول/اكتوبر، والذي عُرف بـ”الثلاثاء الأسود”، وقد جاء بعد انهيارٍ آخر سبقه بخمسة أيام، ليشكّلا معاً بداية الكساد الذي انتقلت عدواها إلى مختلف أنحاء العالم.

إذاً، قد يكتب التاريخ عن الكساد الكبير الثاني الذي حدث عام 2020 إذا طال أمد الأزمة الراهنة وإن اختلفت أسبابها المباشرة وغير المباشرة.

انهارت سوق الأسهم في وول ستريت في 13 آذار/مارس وسجّل مؤشّرها الرئيسي داو جونز أسوأ جلسة له منذ عام 1987 بخسارة 10% من قيمته في يوم واحد ليستمر الانخفاض على مدى أسبوع كامل وُصف بالأسوأ في تاريخ وول ستريت. وقالت صحيفة “ليزيكو” الفرنسية أن الضغط الذي ظهر في نهاية شباط/فبراير مع ظهور حالات الإصابة الأولى بـ”كوفيد-19″ في أوروبا والولايات المتحدة، تحوّل إلى حالة من الذعر العام، تجاوز خلالها مؤشر الخوف “فيكس” (مؤشر تقلبات الخيارات لدى ستاندرد آند بورز 500) رقمَه التاريخي الأعلى لعام 2008، وسجل رقماً قياسياً جديداً عند 82.69 نقطة في 16 آذار/مارس.

ولفتت الصحيفة إلى ان هذا الهبوط لم يحدث من قبل بهذه السرعة وفي شهر واحد فقط. وقد تم تعليق التداول في وول ستريت أكثر من مرة بسبب انخفاض الأسهم بنسبة تفوق الـ7% التي يتوقف عندها التداول في بورصة نيويورك.

قد يكتب التاريخ عن الكساد الكبير الثاني الذي حدث عام 2020 إذا طال أمد الأزمة الراهن

لا بد من الإشارة إلى أن “أزمة كورونا” لم تضرب أسواق المال فقط، بل ضربت السلع أيضاً، خصوصاً النفط، الذي شهد انخفاضاً غير مسبوق في الطلب، تلاه انهيار المحادثات بين الدول المنتجة من داخل منظمة “أوبك” ومن خارجها ما أدى إغراق السوق بفائض في الإنتاج يبلغ واحدا وعشرين مليوناً وثمانمئة ألف برميل، وبالتالي أدى إلى انخفاض الأسعار إلى أدنى مستوياتها في 18 عاماً، ما يضر بميزانيات الدول التي تعتمد على عائدات النفط والغاز ويزيد الأعباء عليها.

إقرأ على موقع 180  هل سأحتفظ بلقاح "فايزر" في ثلاجة المنزل؟

 

أزمة الرأسمالية

توصَّلت قيادات الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، إلى اتفاق يقضي بتخصيص ميزانية عاجلة قيمتها ألفي مليار دولار (2 تريليون) لتحفيز المستهلكين على الطلب. الحصة الأكبر من هذه الأموال ذهبت إلى كبريات الشركات والمؤسسات التي ستتلقى دعماً مباشراً قيمته 500 مليار دولار وقروضاً قيمتها 367 مليار دولار. إذاً، قررت الإدارة الأميركية صرف أموال دافعي الضرائب لتمويل الشركات الكبرى من دون أن تفرض عليها أي شرط لحماية حقوق الموظفين والعمال ومنع تسريحهم.

في الواقع وصل عدد المتقدمين بطلبات للحصول على إعانات البطالة إلى 3 ملايين و280 ألف شخص الأسبوع الماضي إرتفاعاً من مستوى 282 ألف طلب في الأسبوع الذي سبقه. وأوضحت وزارة العمل الاميركية أن هذه القفزة سببها التعطيل الذي فرضه انتشار الفيروس ما أطلق العنان لعمليات التسريح من العمل.

هناك مشكلة في البنية الاخلاقية التي تقوم عليها الراسمالية الحديثة، يقول البروفيسور بيار الخوري، الباحث في الاقتصاد السياسي ونائب رئيس الجمعية العربية – الصينية للتعاون والتنمية. وفي حديث إلى موقع “180”، يؤكد الخوري أن طريقة تعامل الأنظمة الراسمالية ولا سيما في أوروبا وأميركا مع المجتمعات الانسانية أولاً ومع الشركات ثانياً أثبت أن هذه الأنظمة ترعى مصالح الشركات وتسعى إلى تعظيم أرباحها في المدى المتوسط والبعيد على حساب مصالح المواطنين وصحتهم وحياتهم وأن هذا النهج ليس مجدياً دائماً. وتوقع أن تُجري المؤسسات الدولية مزيداً من الخفض في توقعاتها للنمو الاقتصادي في الأسابيع المقبلة إلى مستويات سلبية ما يعكس فشل السياسات الرأسمالية وخياراتها.

بيار الخوري: هناك مشكلة في البنية الاخلاقية التي تقوم عليها الراسمالية الحديثة

ويشير الخوري إلى فرادة التجرية الصينية في إدارة الأزمات بالقول إن السلطات الصينية عملت على أساس مصلحة الجماعة وليس مصلحة الفرد، وعبّر عن خشيته من “حرب” جديدة تُشن على الصين وتُعدّ في الغرف المغلقة لمنعها من ممارسة حقها بلعب أي دور ريادي في المستقبل بعدما أثبتت نجاحها طبياً واقتصادياً وبادرت إلى تقديم المساعدة إلى الدول المنكوبة وأبرزها إيطاليا التي تخلى عنها شركاؤها الاوروبيون بحسب تعبيره.

أما عن إمكانية استغلال مناهضي العولمة والانفتاح الاقتصادي لهذه الأزمة، للعودة إلى الحمائية والدعوة إلى تغيير نظم التجارة ومبادئ الانفتاح والتكامل فلم ينف الخوري إمكانية أن تعلو الأصوات الداعية إلى العودة للداخل لكنه انتقد هذا التوجه بالقول إنه يشبه السلفية الاقتصادية وإن الانغلاق سيؤدي إلى انهيار الاقتصادات من الداخل وبالتالي ليس من الحكمة أن تعود الدول الكبرى إلى الحمائية رغم أن مشكلة الغرب لا تكمن في رفض العولمة كإحدى أوجه تطور النظام الرأسمالي، بل في رفض صعود دول أخرى على رأسها الصين وروسيا بالاستفادة من العولمة.

يُذكر أن وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف، قال في لقاء عبر الانترنت مع وزراء تجارة مجموعة العشرين، إن جائحة فيروس كورونا المستجد كانت “ضربة خطيرة للاقتصاد العالمي والتجارة العالمية، وإن بنية العلاقات التجارية والاستثمارية وسلاسل الإنتاج العالمية التي تطورت على مدى عقود من العولمة معرضة للخطر” داعياً إلى التغلب على هذا الاتجاه الخطير.

Print Friendly, PDF & Email
اليسار كرم

صحافية لبنانية متخصصة في الاقتصاد

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  "كورونا" ومستقبل أوروبا: مساران محفوفان بالمخاطر