
يقول لك ولد صغير: "لقد تعودنا "عمُّو" على هذا الصوت المرعب الذي يُحدثه طيران العدو"، ويضيف باستخفاف: "إنّه خرق لجدار صوت.. ليس أكثر".
يقول لك ولد صغير: "لقد تعودنا "عمُّو" على هذا الصوت المرعب الذي يُحدثه طيران العدو"، ويضيف باستخفاف: "إنّه خرق لجدار صوت.. ليس أكثر".
تتعثر كلماتي، ولا أعرف من أين أبدأ، لم أدرك أنني سأعيش لأرى كل ما يحصل في بلدي الغالي، الذي عشقت كل حبّة تراب فيه؛ هي قصتي وقصة المئات لا بل الآلاف غيري.
على الأرض يحصل الناس على انتماءاتهم الإثنية والدينية والوطنية في الغالب الأعم من الأحوال بطريقة طبيعية مجاناً ودونما كلفة يتكبدونها، بل على العكس من ذلك تأتي هذه الانتماءات مصحوبة - في العادة - بحزم من الامتيازات تقع ضمن ما يسميه علماء الاجتماع بالرأسمال الرمزي إلا في فلسطين وسوريا والجزائر ومصر، ولبنان في المقدمة.
شبّت مراهقتي في مصر على سنوات رخاء أعقبت مرحلة الحرب العالمية الثانية.. وهذه بعض قصص علاقتي بمقاهي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد.
لا يليق المقام، مقام السيّد أولاً، ومقام الشهادة ثانياً، للحديث عن اغتيال أو حتى استشهاد، ولا عن حسابات ميدانية أو سياسية أياً تكن التداعيات، فالحدث الجلل يشطر القلب ويشقه نحو مسار الوجدان وما يجول في مخزونه من ذكريات مخبوءة منذ عقود، إلى صيرورة "السيّد" الموجود في كل زمان ومكان، العابر فوق الحدود، المارّ في قلب كل مقاوم وعقل كل إنسان.
خلفت تجاربي مع الميادين أحاسيس وعلاقات تجمع بين الأبهة والفخامة والعظمة والزعامة والنظافة والقوة والوطنية والجيوش الجرارة والخطب الرنانة والفراغ المهيب والازدحام المخيف والتاريخ الذي لا يغيب والأضواء الكاشفة والفن الجميل.
في صباح الإثنين 15 سبتمبر/أيلول الأخير، بلغني نعي إلياس خوري. كلمات موجزة، تنقل خبر الوفاة. عيناي تقرآن الخبر وفي حنجرتي صرخة، تتسع وتتسع، حتى تغطّي قطعة السماء في أعلى النافذة وتمحو أرضية الغرفة. لا أرى في الصرخة سوى وجه إلياس، صديقي إلياس، الذي يرحل. صرخة في الحنجرة وعينان مغلقتان. كما لو كنت أغرق في لجّة لا قرار لها. هي صرخةٌ لفقدان إلياس، في صباح من المفروض أن يكون أحد صباحاته في الكتابة التي كان يمارسها بشوْق في مكتبته، قبل الذهاب إلى العمل في مجلة الدراسات الفلسطينية.
استغرقني لأجلس وأكتب عن غزة قُرابة الثمانية أشهر. مررتُ كغيري من البشر بتقلبات تراوحت بين الاكتئاب الشديد والعجز الأشد. تخلّله بكاءٌ من وجع لم أشعر به من قبل وقلة حيلة وخذلان من عالم "حر" و"غير حر"!
صعدَت للميكروباص واتجهت كعادتها مباشرة نحو مكانها خلف السائق. نظر محمود في المرآة وسألها، "صباح الخير يا أم حسين. مالك. مين مزعلك عالصبح؟ ما اتعودناش نشوفك زعلانة". رفعت حرف طرحتها ومسحت بها دمعة كادت تنزل على خدها. لم تجب واحترم الجميع، السائق وركاب الباص، صمتها. تكتموا على فضولهم وصمتوا.
هذا العنوان هو استعارة من مطلع قصيدة للشّاعر الراحل محمود درويش، الذي التقيته لآخر مرّة في حفل تأبين الشّاعر السوري ممدوح عدوان في دمشق، والقصيدة وأجواؤها وصورها من السّهل الممتنع، ومنذ قراءتها كانت تأتيني بين الحين والآخر، وأجد نفسي أردّد بعض مقاطعها، بل أدندن فيها في خلوتي أحيانا، وها آنذا اقتبس العنوان بمناسبة يوم الأم.