يلومني كثيرون. هم على حق. أصبحت يا نصري مثل البُوم. لا إشارة في ما تكتب إلى مستقبل قليل.. إلى بصيص حياة.
يلومني كثيرون. هم على حق. أصبحت يا نصري مثل البُوم. لا إشارة في ما تكتب إلى مستقبل قليل.. إلى بصيص حياة.
لسنوات طويلة اختزلت حرب أكتوبر (1973) فى رجلين: «أنور السادات بطل الحرب والسلام»، ثم «حسنى مبارك بطل الضربة الجوية الأولى». كان ذلك إجحافا بالقادة العسكريين الذين خططوا ودربوا وقاتلوا، وبعضهم لامست سيرته الأساطير، كما كان إجحافًا ببطولات الجنود الذين قدموا من قلب الحياة المصرية وضحوا بحياتهم حتى يرفع البلد رأسه مجدداً.
بعد حربٍ سريعة، يهجُر الأرمن اليوم "قره باغ" (الجبل المسمّى أيضاً ناغورنو كاراباخ أو أرتساخ) وسيحلّ مكانهم الأذريوّن، كنهايةٍ لصراعٍ عرقيّ دامَ طويلاً في منطقةٍ متعدّدة الإثنيّات كان الكرد يشكّلون سابقاً جزءاً أساسيّاً من سكّانها.
بكل بساطة، كي لا تكون هناك دولة تُحاسبهم.. فرطوا الدولة، وكي لا يكون هناك قضاء يُعاقبهم.. دمّروا القضاء، وكي ينهبوا ما تبقى من أموال الناس.. كرّسحوا المصارف وحموا ما بقي من هياكلها، وكي يحافظوا على سيطرتهم.. أمعنوا في التحريض الطائفي والمذهبي، فبلغت الانقسامات الطائفية والمذهبية حداً غير مسبوق؛ حافظوا على الأجهزة الأمنية والعسكرية ظناً منهم أن ذلك يُبقي على الاستقرار وسيطرتهم بالتالي.. وغيرُ خافٍ أن هذه الأجهزة لديها مناعة، أو بعضها على الأقل لأسباب مهنية.
أن يكون الفراغ في سدة الرئاسة الأولى سُنّةً، يصير وكأنه من تقاليد الحياة “السياسية” في لبنان، وأن يُصرّوا على التوافق بشروط مسبقة دون التفاوض والتصويت.. فيه إلغاء للسياسة، وهي بالأساس تفاوض مبدأها التسوية التي تُحسم بالتصويت. يريدون أن تكون الدولة فراغاً دستورياً لا ينتظم فيها المجتمع تلقائياً، بل يكونوا هم الذين يجمعون الناس بعد تفريقهم طائفياً وإنهاكهم مالياً وتجويعهم معيشياً، خاصة بعد ثورة 2019 التي رأوا فيها خطراً على سلطتهم. خلقوا الفراغ في الدولة ليكون وسيلة لحكم لبنان. أسلوب جديد في إدارة الدولة.
المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها
ليس الأمر أن ليس في البلد دولة. الدولة الآن هي الفراغ. الحُكم بالفراغ هو ما تفتعله السلطة الحاكمة والمسؤولون عنها. لا شيء يمنع رئاسة المجلس النيابي من الدعوة لانتخابات رئاسية إلا لسبب التواطؤ الذي يكون مبدأه إما وجهة نظرنا أو لا أحد. يعتمد أصحاب هذا التواطؤ على أن جمهور اللبنانيين لن يستجيب لدعوات التحريض فيؤدي الأمر إلى الأسوأ، ومعروف ما هو الأسوأ، فيعتبر ذلك عجزاً عن المواجهة. ويتعالى أصحاب التواطؤ إمعاناً في احتقار شعبهم من مختلف الطبقات والطوائف والمذاهب. هم لا يُسيئون إلى البلد بخلق الفراغ وحسب، لكنهم يسيئون إلى أنفسهم، إذ وضعوا أنفسهم في قفص الإتهام. وما عاد خافياً على أحد هوية من يحكم لبنان أو من بيده السلطة، سلطة الحل والعقد. هل يُريد هؤلاء الإشارة الى أن العداء لإسرائيل ليس الأولوية، بل هي في مواجهة “الشيطان الأكبر”؟ وهذا يشمل الامبريالية الأميركية كما الثقافة المحلية التي لا تروق لهم. ولا مانع عند خصومهم من المواجهة الثقافية ما دامت لا تُكلّف الكثير إلا أنها تنم عن مكبوت الفيدرالية التي صارت ممارسة يومية بين ثقافتين.
ربما تأكد للنخب الحاكمة أن في ذلك فرادة لبنان واستثنائيته؛ عبقرية لا يجاريه فيها أحد على وجه الكرة الأرضية. المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها. مسرح الفراغ شغّال، ويتعيّن عليها حمايته.
كل ما عدا ذلك من أحزاب وتجمعات نيابية وكتل نيابية وأقزام يروحون ويجيئون على المسرح، ما هم إلا “ديكور” يهدف إلى ضمان استمرار المسرحية ذات الأبطال الثلاثة المذكورين أعلاه. ليست المسرحية عبثية إذ أن نتائجها متوقعة، وما هو مزعوم أنه غير متوقع، يتقرر فيه مصير جمهور كبير من المشاهدين في صالة المسرحية من اللبنانيين وغير اللبنانيين، من أصحاب إخراج القيد ومن يفتقدونه حتى إشعار آخر.
ليس في لبنان مواطنون. هم جميعاً رعايا. إذ أن المواطن بالتعريف يُساهم في السلطة بطريقة أو بأخرى، عن طريق الإنتخابات، أو الأحزاب، أو التظاهر، أو ما يؤدي إليه تشكيل الرأي العام. فالمواطنية ملغاة بحكم إلغاء الدولة وتدمير السياسة وممارسة أو محاولة تطبيق مبدأ التوافق لا التسوية. والغرابة في لبنان هي الإصرار على مبدأ لا يمكن تطبيقه والعزوف عما هو متيسر ولوجه.
بين المشاهدين، النسبة بين من يملكون إخراج قيد والذين لا يملكونه متقاربة، وهم حتى الآن جمهور من المشاهدين، لكن وراء الأكمة ما وراءها.
القابضون على السلطة مطمئنون إلى أنه إذا حدث ما لا يريده أحد، وهو متوقع على كل حال، فإن لكل منهم طائفته التي يحتمي بها ويدفعها إلى تشكيل جماعة مغلقة. في أحسن الأحوال ستكون هناك فيدرالية بين الجماعات المغلقة سواء أكان لكل منها أرض متصلة أو لا يكون؛ لكن الاعتماد على “ثقافة” كل فريق طائفي؛ ولذلك الإصرار على مواجهة ثقافية حتى ولو تعلق الأمر بمنع كتاب أو تحريم فيلم سينما أو مقال صحفي، يزعم ذوو الحياء الثقافي أنه كان ذا أثر عليهم؛ على شعورهم الثقافي أو القومي.
مسرح الفراغ لا يدوم وأطراف الطبقة السياسية يعرفون ذلك. ليس في القانون الدولي فراغ. لا فراغ في السياسة. إن لم تملأه السلطة فإن الجماهير قادرة على ملئه وتعبئته كما لم يكن متوقعاً.
لم يأخذ أهل الحل والعقد أن الفراغ وإن أخلوه إلا أن الجمهور يستطيع أن يملأه. حينذاك سوف يقولون “لات ساعة مندم”.
رأينا في المقال السّابق حول الألم أنّ كلّ هذه التّساؤلات الأساسيّة لا بدّ وأن توصل إلى سؤال "وجود (أو تواجد) الشّرّ"، وبالتّالي إلى الاصطدام الفلسفي القديم-العظيم: إنّه الاصطدام أو الارتطام الموجع جدّاً – بالنّسبة إلى الكثيرين – بسؤال الثيوديسا La Théodicée. إذ: مهما كانت نظرتنا الوجوديّة (Ontologique) فيما يخصّ وجود أو تواجد الألم والشّرّ، لا بدّ وأن نرتطم بعاملٍ مهمٍّ متأتٍّ من معتقدات الأديان السّماويّة الإبراهيميّة بشكل خاص: الخير والعدل المُطلَقَين "للإله".
من بين التقديرات السائدة لمستقبل العلاقات الدولية، واحدة تبلغ مستوى اليقين بأن الصين والهند تقتربان من صوغ رؤية ثنائية استراتيجية قد تقلب النظام الدولي الراهن رأساً على عقب، ومن دلالات ذلك انخراط الطرفين في مجموعة "بريكس، فإلى أي حد تصح هذه التقديرات؟
يكشف الأدب عما في المجتمعات من اختلال في القيم واتجاهات التفكير والفعل، ويُقدّم استبصارات لما يُمكن أن تؤول إليه الأمور. صحيح أنه لا يُنتج خُطباً أو نصوصاً أو مشروعات سياسية بالضرورة، لكنه يقول الكثير مما يُمكن أن يقال.
بأي حساب لم تكن الأسابيع الأخيرة مرحلة طيبة في التاريخ الحديث للمنطقة التي نعيش فيها، وككل مراحل التاريخ يصعب جداً تحديد نقطة بداية هذه المرحلة وبطبيعة الحال يصعب أيضاً وربما أكثر التنبؤ بلحظة نهايتها.
لو أن أنور السادات كان حياً يُرزق لربما تراجع عن مقولته الشهيرة، غداة حرب أكتوبر 1973، بأن الولايات المتحدة "تمتلك ٩٩٪ من أوراق الحل في الشرق الأوسط". ربما لم يكن رئيس مصر مبالغاً في وصفه، حينذاك. فقد تسنى لواشنطن، قبل حوالي النصف قرن، دخول الشرق الأوسط من مصر.. "بوابة العرب الكبيرة"، كما وصفها هنري كيسنجر.
علينا أن نشتري ورداً، لنضعه على قبر أمة. الأمة لم تولد بعد في جغرافيا العرب. علينا أن نسأل من أفسد الأديان في مهبط الوحي والإيمان. لا تنقصنا الأدلة: السياسة تسيء إلى الدين، والدين يسيء إلى السياسة.