لا تشي التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط بمجرد تهدئة في عدد من الساحات وبينها لبنان والعراق، بل توحي بمؤشرات جديدة، فما هي هذه المؤشرات؟
أولاً: عقدت قمة ثلاثية مصرية أردنية عراقية في عمان لتدشين ما أسمي “مشروع الشام الجديد” أو “المشرق الجديد، وهو مشروع اقتصادي “وفق النسق الأوروبي، من خلاله ستكون تدفقات رأس المال والتكنولوجيا، أكثر حرية”، كما قال مصطفى الكاظمي لصحيفة “واشنطن بوست”، غداة زيارته إلى الولايات المتحدة والتي حفلت بتفاهمات إقتصادية ضخمة بقيمة 8 مليارات دولار، فضلا عن إطلاق حوار إستراتيجي بين البلدين، يمهد لإنسحاب أميركي متدرج وهادى يلبي مصالح البلدين من جهة ومتطلبات التفاهمات الإيرانية العراقية من جهة ثانية.
هذا اللقاء المشرقي لا يمت بصلة إلى نظرية الأقليات التي لطالما روج لها كثيرون. محاولة عراقية للتموضع ضمن الهوامش المتاحة أميركيا وإيرانيا، تقابلها مصلحة مصرية وأردنية بتموضع لا يتناقض وإلتزامات الدول الثلاث مع الولايات المتحدة. تموضع يجعل العراق ينأى بنفسه عن صراعات الإقليم ويحاول أن يستثمر أفضل علاقات مع جيرانه العرب، كما مع جاره الإيراني. في هذا السياق، يجري الحديث عن زيارة قريبة للكاظمي إلى السعودية، وهي لن تكون بمعزل عن المشروع الذي أرسيت دعائمه في القمة الثلاثية، خصوصاً وأن الكاظمي ناقش التنسيق السعودي ـ العراقي بشأن النفط وعناوين اقتصادية أخرى مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في اتصال هاتفي قبل إجتماعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ثانياً: لم يدلِ الكاظمي بتصريح شجب فيه مسألة التطبيع الإماراتي الاسرائيلي، بل اكتفى بالقول “هذا قرار إماراتي، ولا ينبغي لنا التدخل”، وهو ما يشي برغبة عراقية في السير قدما نحو خيار الاحتواء وعدم المواجهة مع المحيط الخليجي، فضلاً عما تردد عن نية رئيس وزراء العراق زيارة أبو ظبي بعد إنتهاء زيارته السعودية. ولعل البعض أخذ لهذا التصريح مآلات أبعد من مجرد الانفتاح على المحيط الخليجي، لا سيما وأن مناخ التطبيع العلني يسري بقوة في المحيط العربي، اماراتيا، سودانيا، بحرينيا، وقريبا سعوديا على ما يبدو، علماً أن مصر والأردن هما من أوائل الدول التي دشنت مسار التطبيع!
ثالثاً: حظي الكاظمي بإستقبال مميز في طهران، وكان لافتاً للإنتباه إجتماعه بالمرشد السيد علي خامنئي، وهو إستقبال لم يكن وارداً لو أن طهران تشتبه بدور ما للكاظمي في قضية إغتيال الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، فضلا عن التقنين الذي تخضع له كل المواعيد مع خامنئي منذ تفشي فيروس كورورنا. الكاظمي أبلغ القادة الإيرانيين أنه يتفهم مصالح إيران وأنها دولة جارة وهو حريص على إقامة علاقات “دولة مع دولة”، ولكنه صارح الإيرانيين بالحاجة العراقية إلى قوات أميركية لا للقتال بل بهدف التدريب وبناء القدرات (ضمناً تخفيف الحصار عن بلاده). وهذه التوليفة المركبة والمعقدة تظهر أن الكاظمي يحاول إمساك العصا من الوسط، سواء بسعيه إلى تخفيف القبضة الإيرانية وفي الوقت نفسه الحفاظ على أفضل علاقات مع أميركا.
رابعاً: جاءت زيارة مستشار الأمن الوطني العراقي سابقا ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض إلى سوريا مؤخراً، وهي أول زيارة لمسؤول عراقي منذ تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الكاظمي، لتؤكد أن الأخير لن يكون شريكاً في أي مشروع يهدف إلى حصار سوريا، بل هو حريص على أن تكون سوريا جزءا من اللقاء المشرقي، وهو كان قد أجرى إتصالات مع القيادة السورية، عندما كان مديراً للمخابرات وتعاون مع أجهزتها الأمنية في مجال تبادل المعلومات وإلقاء القبض على العديد من الشبكات الإرهابية، وبالتالي، ليس مستبعداً أن يزور الكاظمي العاصمة السورية، “في الوقت المناسب” و”بضوء أصفر أميركي”، علماً أن الرئيس اللبناني ميشال عون وجه دعوة إلى الكاظمي لزيارة لبنان وقد وعد بتلبيتها، ومن غير المستبعد حصولها بعد نيل حكومة مصطفى أديب ثقة مجلس النواب، إذا بلغ مسار التأليف شاطى الأمان. يذكر أن الكاظمي كان قد أبلغ المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم عند إستقباله له في منتصف أيار/مايو المنصرم، أنه أكثر حماسة من اي وقت مضى لخيار التكتل الإقتصادي المشرقي الذي يضم العراق ولبنان وسوريا والأردن ومصر وفلسطين، ولذلك، شكلت قمة عمان خطوة أولى في هذا الإتجاه.
خامساً: جاءت زيارة إيمانويل ماكرون إلى العراق في إطار مبادرة فرنسية لدعم مسيرة السيادة العراقية وتشجيع الكاظمي على النأي ببلاده عن الأزمات الإقليمية المتشعبة. كما تأتي بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان، حيث ظهر التناغم جلياً بين ماكرون وحزب الله، في إنعكاس واضح لتفاهمات إيرانية فرنسية. كذلك، لم يعد خافياً سعي فرنسا لكبح التمدد التركي في الشرق الأوسط، بعدما بلغ الموقف حد الخشية من مواجهة عسكرية على خلفية ملف الغاز. وهنا يتقاطع العراق وفرنسا في الشكوى من “التغول التركي”.
سادساً: بدا لافتاً أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قد قدّم محاضرة في عاشوراء يشرح فيها الظروف التي أدت بالإمام الحسن إلى عقد صلح (الأحرى تسميته بالهدنة لا بالصلح، على حد تعبيره).. وهو خطاب بدا شبيهاً بخطاب السيد علي الخامنئي قبيل التوقيع على الاتفاق النووي في العام 2015، حيث تحدث في خطبة شبيهة عن الظروف التي دفعت الإمام الحسن إلى هذا الصلح، وقد أعطى حركته السياسية آنذاك عنوان “المرونة البطولية”.
سابعاً، كان لافتاً للإنتباه أنه خلال زيارتي مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل ومن بعدها الزيارة الحالية للديبلوماسي الأميركي ديفيد شنكر المسؤول عن ملف ترسيم الحدود البحرية، أن واشنطن تتجاهل هذا الملف، وهذا الأمر يعكس تريثاً إسرائيلياً في تقديم أجوبة على ردود لبنانية من جهة وعدم إستعجال أميركي من جهة ثانية، من دون إستبعاد إحتمال تلزيم هذا الملف، أي ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى الفرنسيين.
ثامناً، لا يمكن تجاهل الملف الأكثر حساسية في الساحتين العراقية واللبنانية وهو ملف الحشد الشعبي العراقي وسلاح حزب الله اللبناني، وهما ملفان يصعب إيجاد تسويات محلية لهما، ولذلك، من المتوقع تعامل الفرنسيين معهما بواقعية أكبر، أي تركهما إلى اللحظة التي تختمر فيها ظروف التسوية الكبرى، تحديداً بين واشنطن وطهران.
تاسعاً، من الواضح أن الفرنسيين شجعوا على إستمرار المبادرة العراقية القاضية بإستمرار تقديم أطنان من مساعدات المحروقات العراقية إلى معامل الكهرباء في لبنان عن طريق البر السوري، وهم يملكون تصورا لمعالجة قضية الكهرباء في كل من العراق ولبنان، وسيقدمون العروض التي تحظى بموافقة الأميركيين وحكومتي هذين البلدين، وبينها إطلاق مشروع نووي لتوليد الكهرباء في العراق فضلا عن ملفات فرنسية ـ عراقية عديدة، أبرزها ملف النقل.
عاشراً، ليس معروفاً عن الفرنسي أنه “يفتح على حسابه”. خطواته منسقة في كل الساحات مع الأميركيين، كما مع حلفائه في البيت الأوروبي.