في عام 1840 اجتاح جيش ابراهيم باشا المصري بدعم من فرنسا بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية مجبراً الجيش العثماني على التقهقر. ولما كان آوان دفن السلطنة العثمانية لم يحن بعد من وجهة نظر بريطانيا، سارعت الأخيرة إلى نجدة الأستانة التي استعادت سيطرتها على المنطقة التي تراجعت عنها، باستثناء مصر التي اكتفى العثمانيون بسيطرة اسمية عليها. بدورهم، خاض الروس معارك طاحنة مع العثمانيين حتى تمكنوا من الوصول إلى المياه الدافئة.
اليوم، يطرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعار الخروج من حدود معاهدة سيفر التي رسمت الحدود الحالية لتركيا مصطفى كمال أتاتورك عقب الحرب العالمية الأولى. ويجد أن الظروف السياسية والعسكرية المحيطة مناسبة للتحلل من معاهدة “كبّلت” تركيا، في رأيه.
ولم تصطدم سفينة التنقيب التركية عن النفط “أوروج رئيس” التي أطلقها أردوغان في رحلة اختبارية بلغم بحري، بل اصطدمت بالتاريخ، فاستيقظت اليونان على عجل لتجد نفسها مطوقة بترسيم بحري صاغ خريطته أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج من دون التشاور مع دول استفزتها الخريطة ولا سيما اليونان وقبرص ومصر.
وهذا الاندفاع التركي نحو شرق المتوسط ونحو ليبيا، استفز فرنسا أيضاً التي وجدت أن مصالحها في المنطقة مهددة بالزوال. فكان الوقوف خلف مصر لرسم خط أحمر أمام القوات الليبية الموالية لتركيا على جبهة سرت والجفرة. وكان احتضان فرنسي للمشير الليبي خليفة حفتر. وسارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان قبل أن ترسخ تركيا أقدامها فيه، وذهب إلى العراق أيضاً لتثبيت حضور فرنسي رمزي هناك، وكانت قمة الدول الأوروبية السبع المطلة على المتوسط في كورسيكا، بمثابة نذير بتوسيع الطوق الأوروبي حول أنقرة. فتراجع اردوغان خطوة إلى الوراء وبدأ الحديث عن اعطاء الديبلوماسية فرصة.
لم تصطدم سفينة التنقيب التركية عن النفط “أوروج رئيس” التي أطلقها أردوغان في رحلة اختبارية بلغم بحري، بل اصطدمت بالتاريخ، فاستيقظت اليونان على عجل لتجد نفسها مطوقة بترسيم بحري صاغ خريطته أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج من دون التشاور مع دول استفزتها الخريطة
ووسط زحام الأساطيل والمناورات والمناورات المضادة في شرق المتوسط، لم يتأخر اللاعب الروسي عن الحضور. هو موجود بقوة في سوريا، أي في قلب الصراع الدائر في المتوسط. أولاً، بعث برسالة قوة عبر مناورات بحرية على مرحلتين في المنطقة ذاتها التي كانت سفينة الاستكشاف التركية تبحر فيها وعبر ارسال بارجة إلى ميناء ليماسول القبرصي، وثانياً عبر اتصالات مع “الشريك” التركي لتهدئة الموقف والبحث في استراتيجية أوسع لكل من سوريا وليبيا، وطبعاً ستكون منطقة شرق المتوسط وثرواتها الدفينة في صميم البحث.
ولعل هذا هو لب الموضوع الذي يسيل له لعاب دول المنطقة. ويصب في هذا الاتجاه “منتدى الغاز” الذي تأسس عام 2019 ويضم مصر وقبرص وإيطاليا واليونان واسرائيل والاردن وفلسطين. وتلا هذه الخطوة اتفاق بين اليونان وقبرص واسرائيل على مد خط أنابيب أطلق عليه “إيست ميد” لنقل الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان وإيطاليا. وبدا أن الخط المزمع بمثابة تحد لخط “السيل التركي” الذي ينقل الغاز من روسيا إلى تركيا ومنه إلى أوروبا.
تشابكت الخطوط ومعها المصالح، فيمّم أردوغان شطر ليبيا ليرسم خريطة تنقيب تتوافق ومصالح تركيا في شرق المتوسط، فكانت المواجهة التي لا تزال تدور رحاها حتى الآن. وغذاها الدخول الفرنسي على خط الصراع.
يجري ذلك في ظل غياب يكاد يكون شبه تام للولايات المتحدة، التي تسعى إلى عدم إغضاب لا تركيا ولا اليونان، ويهمها طبعاً عدم اندلاع مواجهة تتيح مجالاً لدخول روسي أوسع إلى المنطقة.
الصراع الدائر في شرق المتوسط، يرسم تحالفات وتكتلات وخرائط جيوسياسية جديدة، على غرار التغييرات الجيوسياسية الجارية برعاية أميركية بين دول خليجية وإسرائيل في المواجهة الأشمل بين أميركا وإيران.