بوضوح وبحسم، قال جو بايدن إنه لم يعد لأميركا ما تفعله في أفغانستان، وبأنها حققت أهدافها هناك. وهذه الأهداف هي في رأيه عدم وقوع هجمات جديدة داخل الأراضي الأميركية مماثلة لتلك التي نفذها تنظيم “القاعدة” في 11 أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، ونصح الآخرين بـ”التعايش” مع “طالبان”. كان هذا آخر الكلام الأميركي بالنسبة إلى أفغانستان، بينما الواقع على الأرض ينذر بأسوأ السيناريوات، سواء بالنسبة إلى الأفغان أو بالنسبة إلى المحيط.
مسارعة “طالبان” إلى السيطرة على المنافذ الحدودية لأفغانستان، بعثت برسالة معاكسة لـ”التطمينات” التي حملها وفدان من الحركة إلى كلٍ من روسيا وإيران بالتزامن. فكان لزاماً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتصل بالرئيس الطاجيكي إمام علي رحمن ليؤكد له أن روسيا وضعت قاعدتها العسكرية في طاجيكستان في حال تأهب للتدخل إذا دعت الحاجة، وأوفد رئيس هيئة أركان القوات المشتركة لمنظمة الأمن الجماعي الجنرال أناتولي سيدوروف لتفقد الحدود الطاجيكية – الأفغانية بعد فرار جنود أفغان إلى داخل طاجيكستان عقب إستيلاء “طالبان” على ثلثي المعابر بين البلدين وبينها جسر أمو داريا الذي يحمل رمزية خاصة بالنسبة إلى روسيا، كون آخر جندي سوفياتي عبر هذا الجسر عند الإنسحاب من أفغانستان عام 1989. وطبعاً، لا ترغب روسيا في سلوك الجسر بالاتجاه المعاكس مرة أخرى.
وفي سياق متصل، ما يستحق التوقف عنده، أن الأنباء عن سيطرة “طالبان” على معبر إسلام قلعة الرئيسي مع إيران، وردت أولاً من وسائل إعلام إيرانية قبل أن تؤكدها الحركة، في دلالة على أن طهران تراقب بدقة التطورات الدراماتيكية داخل أفغانستان، ولا سيما في ولاية هيرات التي يقطنها أربعة ملايين من أقلية الهزارة الأفغانية الشيعية.
تثير التغييرات الجيوسياسية في أفغانستان قلق الصين بقدر ربما يفوق ذلك السائد في روسيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى. وبكين عينها اليوم كيف تحافظ على “الممر الإقتصادي” الصيني – الباكستاني الذي يتضمن مشاريع صينية في باكستان مقدارها 60 مليار دولار
وعلى رغم “التطبيع” الظاهر بين طهران والحركة الأفغانية المتشددة، فإن الماضي غير البعيد والفوارق الإيديولوجية لا تزال ترخي بثقلها على العلاقات بين الجانبين. وإلى الآن، يقيم مئات آلاف اللاجئين الأفغان من الهزارة في الأراضي الإيرانية بعدما كانوا فروا من حكم “طالبان”. بينما يبقى اقتحام الحركة في ذروة حكمها لأفغانستان، القنصلية الإيرانية في مزار الشريف وقتلها جميع أفراد الطاقم العامل فيها، أمراً يفرض على طهران إلتزام جانب الحذر في التعامل مع “طالبان” المنبعثة من جديد. وتقيم إيران علاقات جيدة مع حكومة كابول، وكان لافتاً للإنتباه الدعم السخي الذي لقيه الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي من الحكومة الإيرانية بعد إطاحة “طالبان” من الحكم عام 2001.
وتثير التغييرات الجيوسياسية في أفغانستان قلق الصين بقدر ربما يفوق ذلك السائد في روسيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى. وبكين عينها اليوم كيف تحافظ على “الممر الإقتصادي” الصيني – الباكستاني الذي يتضمن مشاريع صينية في باكستان مقدارها 60 مليار دولار. وفي مقال على موقع “بلومبرغ” الأميركي، وردت ملاحظة مهمة وهي أن الإقتصاد الصيني تضاعف خمس مرات منذ الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001. وتالياً من حق القادة الصينيين أن يقلقوا من تداعيات الإنسحاب الأميركي الآن، وما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد للإستثمارات الصينية في بلد مثل باكستان تعداد سكانه يتجاوز 216 مليوناً. وإدراكاً لأهمية هذه الإستثمارات، أنشأ الجيش الصيني منذ سنوات قوة خاصة لحماية هذه الإستثمارات. ويعتزم وزير الخارجية الصيني وانغ يي القيام بجولة على دول آسيا الوسطى الأسبوع المقبل للبحث في التطورات الإقليمية. وكان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبين صريحاً في توجيه الإنتقاد إلى الإنسحاب الأميركي “المتسرع” من أفغانستان، وطالب واشنطن بالوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق “بمنع أفغانستان من أن تصبح مجدداً ملاذاً للإرهاب”.
وعلى رغم صحة المعلومات التي تتحدث عن أن باكستان لم توقف في يومٍ من الأيام دعمها لـ”طالبان” الأفغانية، فإن لديها الكثير لتخشاه من احتمالات تجدد الحرب الأهلية في البلد المجاور والذي يرتبط عرقياً وتاريخياً بالكثير من الصلات بباكستان. ولا يخفى الدور الذي لعبته الإستخبارات العسكرية الباكستانية في نشأة “طالبان” في أوائل التسعينيات الماضية من المدارس الدينية في باكستان، حتى وصولها إلى السيطرة على كامل أفغانستان في 1996.
قد يكون من المبكر جداً إصدار أحكام مبرمة حول اتجاهات الريح الأفغانية. لكن الأكيد أن الإنسحاب الأميركي سيكون فاتحة لمرحلة جيوسياسية جديدة في جنوب آسيا وما حولها، تماماً كما كان الغزو قبل 20 عاماً
وقد سارع رئيس وزراء باكستان عمران خان إلى الإعلان عن عدم استعداد بلاده لإستقبال مزيد من اللاجئين الأفغان، في وقت يوجد أكثر من 1.4 مليون لاجىء أفغاني على أراضيها. وتخشى إسلام أباد أن يشجع إستيلاء “طالبان” على الحكم مجدداً في أفغانستان، حركة “تحريك طالبان” الباكستانية على إستئناف هجماتها ضد الجيش الباكستاني. ومعلوم أن هذه الحركة مسؤولة عن قتل 70 ألف شخص في هجمات وتفجيرات منذ الغزو الأميركي لأفغانستان. وبالكاد تمكن الجيش الأفغاني بالتعاون مع المسيرات الأميركية من احتواء هذه الحركة. لكن التطورات في الجوار الأفغاني قد تغري الحركة مجدداً على معاودة نشاطها العسكري.
وفضلاً عن ذلك، ستتعرض باكستان لضغوط أميركية من أجل التدخل لكبح جماح “طالبان” في أفغانستان. لكن عمران خان وعد الأميركيين باستخدام ما لديه من وسائل ضغط – باستثناء العسكرية منها – لإقناع “طالبان” بالدخول في تسوية مع كابول والعمل على عدم تحويل البلاد مجدداً إلى ملاذٍ للتنظيمات الجهادية ولا سيما “القاعدة” و”داعش”.
وفي مواجهة وضع اقتصادي متدهور زاد من تفاقمه وباء كورونا، تتطلع إسلام أباد إلى قرض من صندوق النقد الدولي بـ 6 مليارات دولار. وهناك من يدعو داخل إدارة بايدن إلى استخدام هذا القرض كرافعة لحمل الحكومة الباكستانية على التعاون أكثر في ما يتعلق بأفغانستان، لكن النتائج غير مضمونة.
وفي الوقت نفسه، لن تكون الهند بمنأى عن الأحداث الجارية، وعودة “طالبان” إلى الحكم، لن يكون مؤشراً جيداً على توازن القوى مع باكستان. وكانت نيودلهي من أبرز الداعمين لحكومة كابول بعد الغزو الأميركي. ومما لا شك فيه أنها تعيد الآن حساباتها الإقليمية.
ويبقى تركيا التي يحاول رئيسها رجب طيب أردوغان، أن يستفيد من فرصة الإنسحاب الأميركي ليقدم نفسه حامياً لمطار حامد كرزاي الدولي في كابول. وهو يعمل عن كثب مع الولايات المتحدة كي تمنحه هذا الدور، بينما يعتمد على علاقات قطر الجيدة مع “طالبان” كي تضمن له قبولاً “طالبانياً” بأنقرة كطرف ضامن لبقاء المطار محايداً تحت الإشراف التركي، بما يعنيه ذلك من توسيع جديد للنفوذ الإقليمي لتركيا.
قد يكون من المبكر جداً إصدار أحكام مبرمة حول اتجاهات الريح الأفغانية. لكن الأكيد أن الإنسحاب الأميركي سيكون فاتحة لمرحلة جيوسياسية جديدة في جنوب آسيا وما حولها، تماماً كما كان الغزو قبل 20 عاماً.