لقد مضى على بداية مؤشرات الانهيار الاقتصادي والمالي نحو سنتين ولا شيء يذكر للمعالجة حتى الآن.
ومضى على انفجار مرفأ بيروت سنة، ولا شيء يشي بأن تداعيات الكارثة توقفت، لا بل هي تتدحرج يومياً منذرة بالأسوأ سياسياً وربما أمنياً، على خلفية تحقيق قضائي اختلف الجميع عليه ومن حوله، من فوقه ومن تحته، بحجج مختلفة أبرزها الحصانات الحامية للمتهمين الواردة اسماؤهم في تحقيقات المحقق العدلي القاضي طارق بيطار.
في الأثناء، أبدت عشرات الشركات الأجنبية والمحلية استعدادها للمساهمة في إعادة إعمار المرفأ. والجميع بانتظار حكومة أصيلة يبدو أنها متعثرة الولادة هي الأخرى، ولا عزاء للوقت الضائع والفرص المهدورة على مذبح زعماء الأرض المحروقة.
غداة الكارثة، أطلت على لبنان مبادرة سياسية فرنسية، وفي جيبها الخلفي مشاريع اقتصادية واستثمارية يريد الفرنسيون اغتنامها قبل غيرهم، وبينها مشروع إعادة إعمار مرفأ بيروت.
كان الاعتقاد في البداية ان رجل الأعمال اللبناني الفرنسي رودولف سعادة، أكبر مساهم في الشركة البحرية العالمية العملاقة “سي أم أيه – سي جي أم”، هو الواجهة الفرنسية المقبولة محلياً. لكن سرعان ما تبين ان لدى الفرنسيين طموحات أكبر ظهرت علناً خلال زيارة وفد من تجمع رجال الاعمال الفرنسيين (ميديف) الى بيروت الشهر الماضي. قدّموا مشروعاً عملاقاً كلفته بين 12 و18 مليار دولار، يشمل الى جانب اعمار المرفأ مشاريع لمدينة بيروت برمتها تحت عنوان “بيروت المستدامة” لتطوير الخدمات الأساسية مثل المدارس والمستشفيات والكهرباء والمياه والصرف الصحي والنقل الحضري وحماية التراث. أما مشروع رودولف سعادة فكانت كلفته بين 400 و600 مليون دولار ومحصور بالمرفأ فقط.
قبل تجمع رجال الأعمال الفرنسيين، أتت مجموعة شركات ألمانية وقدمت مشروعاً عملاقاً أيضاً كلفته 30 مليار دولار، يتجاوز طموحه المرفأ الى بناء مركز تجاري وترفيهي وسكني يشبه “سوليدير” الى حد بعيد، ويغيّر وجه المرفأ والمنطقة المحيطة به كلياً من دون الأخذ بأي اعتبار للنسيج الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والعمراني القائم هناك منذ عشرات السنوات.
وتطمع الشركات الفرنسية كما الألمانية بجزء من الحزمة المالية الدولية التي قد يحظى بها لبنان من المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل العالمية مثل البنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، على قاعدة “الأقربون أولى بالمعروف”.
كشف انفجار المرفأ ان الصيغة اللبنانية التي سادت منذ الطائف لم تعد منتجة بل هي ولّادة أزمات واحدة تلو الأخرى. ومن بوابة المرفأ أراد العالم انقاذ لبنان من المأزق التاريخي الذي وقع فيه بفعل سوء اداء وإدارة زعمائه. لكن اقتلاع هؤلاء ليس بالأمر السهل ودونه خضات بدأت تطل برأسها الخبيث
في مواجهة الفرنسيين والألمان، برز اهتمام للصينيين والروس أيضاً بمشاريع لبنانية بينها إعادة تأهيل مرفأ بيروت. تحمس هؤلاء عندما سمعوا أطرافاً لبنانية تنادي بالتوجه شرقاً نكاية بالغرب المتهم بـ”الامبريالية” او المشبوه بخدمته للمصالح الاميركية والاسرائيلية. فنشأت “حرب” جديدة بين اللبنانيين تحت عنوان تغيير وجه لبنان التاريخي، الذي يصر البعض على أنه مُيّمم شطر الغرب الغني لا الشرق “التعيس”.
بالنسبة للصين، فان الاستثمار في المرافئ جزء لا يتجزأ من مشروع طريق الحرير، المعاد تسميته “الحزام والطريق” والرابط بين الصين والشرق الأقصى بأوروبا وبقية العالم، مروراً بالشرقين الأدنى والأوسط. وسبق للصين ان استثمرت في أكبر المرافئ اليونانية (بيرايوس)، وهي تعد العدة لاستثمارات ضخمة في مشاريع إعادة اعمار سوريا المرتبط اقتصادها بلبنان والعكس صحيح.
وحذر “معهد واشنطن” من الطموحات الصينية، داعياً الغرب الى مجابهة المحاولات الصينية بمشاريع غربية لمرفأ بيروت تحديداً. كما ان متحدثين اميركيين حذروا لبنان بشكل غير مباشر من الاستثمارات الصينية. أما الروس فقد عبّرت شركاتهم عن اهتمامها بلبنان عموماً وبمشاريع تطرح فيه، ويعد ذلك تكملة للدور الروسي في سوريا وليس بعيداً عن مشاريع النفط والغاز التي باتت تزخر فيها منطقة حوض المتوسط. ولم يأت الروس الى سوريا عسكرياً وبقوة ليتركوا المنطقة حكراً على الغرب لا سيما اقتصادياً.
وعلى خط الاهتمام بلبنان، هناك تركيا أيضاً التي عبرت عن رغبتها المباشرة بالاستثمار في إعادة اعمار المرفأ مستندة كما الصين الى ان بضائعها رائجة في لبنان والمنطقة. لكن الأهم من ذلك هو موقع مرفأ بيروت الذي يبقى استراتيجياً للتصدير الى عدد من دول الإقليم وعلى رأسها سوريا والعراق والاردن وجزء من دول الخليج.
إلى ذلك يضاف مشروع محلي معروف بمشروع “الحلو وعماطوري”، هدفه الاسثمار في اعادة التأهيل استناداً الى ايرادات المرفأ نفسه ولمدة 25 سنة، على أن المرحلة الأولى مدتها 3 سنوات اعتماداً على مقاولين محليين. المشروع مقدم من نقيب المقاولين مارون حلو ومؤسس محطتي الحاويات في مرفأي بيروت وطرابلس انطوان عماطوري.
على صعيد آخر، يذكر ان العقد الموقع مع شركة “بي سي تي سي” لتشغيل محطة الحاويات انتهى في كانون الثاني/ يناير 2020، ويتأخر طرح العقد لمناقصة جديدة منذ ذلك الحين لاسباب مجهولة.
دون ما سبق عقبات كثيرة أبرزها أن الفرنسيين كما الألمان ربطوا مشاريعهم بما بات لازمة دولية خاصة بلبنان وهي إجراء اصلاحات هيكلية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. كما أن اللبنانيين لم يحسموا بعد جدل انقسامهم بين الشرق والغرب. ولذلك اتصال جيوسياسي اقليمي وعالمي يعتقد اللبنانيون انهم حلقة مفصلية من حلقاته في المنطقة.
في التفاصيل الأخرى، أظهر الإنفجار عورات فاضحة تحكم عمل هذا المرفق ليس أقلها أن لا مرجعية واضحة للمرفأ الذي يدار حالياً من لجنة مؤقتة مضى على تشكيلها اكثر 30 سنة وبقيت مؤقتة!
فاذا كانت وزارة الاشغال والنقل هي سلطة الوصاية، فان لتلك اللجنة صلاحيات خارج الأطر التشريعية السليمة اكتسبتها من تفاهمات التحاصص التي تأسست في التسعينيات الماضية. ولها مرجعية سياسية وطائفية أسوة بمرافق أخرى في الدولة، إن لم نقل كل مرافق ومؤسسات الدولة الموزعة فيها المحسوبيات والزبائنية والتوازنات الطائفية بغض النظر عن جدوى ذلك اقتصادياً. وللمثال، تفرض تلك اللجنة رسوماً خاصة بها، يبدو أنها متوارثة منذ عهد الوصاية العثمانية، ولا تحوّل الى خزينة الدولة الا نسبة 25 في المائة من تلك الايرادات والباقي، بمئات ملايين الدولارات سنوياً، بعهدة اللجنة تصرفه نظرياً على الصيانة والاستثمار.
ولاستدامة هذا الوضع الشاذ، وغض الطرف عنه، اعطيت لعدة جهات في نظام المحاصصة امتيازات معينة في المرفأ.
والأنكى هو تشتت الرقابة الأمنية بين عدة جهات منها الجيش والأمن العام وأمن الدولة والجمارك، وجهات أخرى أرادت حسب الحاجة والنفوذ، ان تكون لها عيون (واقدام) في المرفأ. وهذا التشتت يفسر جزئياً كيف أن التحقيق غير قادر حتى الآن على تحديد المسؤولية الأولى عن وصول النيترات وتفريغها وتخزينها ثم انفجارها، فاذا به يوسع الاتهامات لعله يصل الى حقيقة نسبية ما في غابة تشابك الصلاحيات وتراكم الهيكليات أفقياً وعامودياً في مرفأ بيروت.
كشف انفجار المرفأ ان الصيغة اللبنانية التي سادت منذ الطائف لم تعد منتجة بل هي ولّادة أزمات واحدة تلو الأخرى. ومن بوابة المرفأ أراد العالم انقاذ لبنان من المأزق التاريخي الذي وقع فيه بفعل سوء اداء وإدارة زعمائه. لكن اقتلاع هؤلاء ليس بالأمر السهل ودونه خضات بدأت تطل برأسها الخبيث، وما أحداث خلدة في الأيام الأخيرة الا نذيراً من هذا القبيل المشؤوم.