الفرصة “الكاظمية”.. ورسائل طهران في قمة بغداد

تعلق بغداد الآمال على القمة التي استضافتها يوم السبت الماضي، على قاعدة ان ما سيكون بعدها، ليس كما هو قبلها. تتباهى انها جمعت تحت سقف واحد، مجموعة من القادة والمسؤولين، لم يلتقوا سوية بمثل هذا الجمع في العاصمة العراقية منذ عقود.

هناك ما يشبه أجواء احتفاء في مقر رئاسة الحكومة في بغداد. القمة المصغرة التي جمعت عدة زعماء وممثلي دول في المنطقة، الى جانب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، توفر لها ما يكفي من عناصر لتوصف بانها “ناجحة”، بل ربما أكثر من ذلك، كما تقول مصادر عراقية.

استند التحرك من اجل ترتيب القمة وانعقادها على رؤيتين أولى لرئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، تكسر ما يشبه المسلمات التي ظلت قائمة حول النظرة الى العراق لسنوات عديدة من زاوية انه منذ هجوم 11 ايلول/سبتمبر 2001 ومن ثم سقوط بغداد في 2003، فان الدول الكبرى والاقليمية ظلت تعتبر ان استقرارها قائم على عدم استجلاب الفوضى الى أراضيها من خلال محاصرة هذه الفوضى في أماكن اخرى وتحديدا في العراق، لكن الكاظمي غلب نظريته القائمة على مبدأ ان استقرار المنطقة قائم على استقرار العراق، وان عدم استقرار العراق هو عدم استقرار للمنطقة.

والرؤية الثانية فرنسية ـ عراقية، تم التمهيد لها بواسطة مستشاري قصر الأليزيه ورئاسة وزراء العراق بهدف إعادة احياء المبادرة الفرنسية في لبنان مع إضافة دور عراقي في الجانب الاقتصادي (نموذج تزويد لبنان بالمحروقات العراقية وتطوير المبادرة مستقبلاً).

ما هي العناصر الثلاثة عناصر التي يمكن للبعض ان يرى فيها ما يمكن ان يعكر صفو هذا الالتئام الاستثنائي في أحضان العاصمة العراقية؟

أولاً؛ عدم دعوة سوريا:

تقول مصادر عراقية مطلعة على كواليس ترتيبات للقمة ومجرياتها، ان بغداد سعت مبكرا الى طمأنة السوريين وتوضيح الموقف العراقي، اذ انه في 16 آب/أغسطس حطّ مستشار الامن الوطني فالح الفياض مبعوثا خاصا من الكاظمي، نقل اليه رسالة تتعلق بالمؤتمر “وأهمية التنسيق السوري العراقي حول هذا المؤتمر والمواضيع المطروحة على جدول أعماله”.

وبرغم البلبلة التي حصلت وقتها حول تلقي دمشق دعوة رسمية للمشاركة، فقد تبين ان ذلك مجرد خطأ اعلامي وقعت فيه بعض المواقع والمنصات الاعلامية، اذ ان زيارة الفياض، كما اشارت وكالة “سانا” السورية، هدفها نقل رسالة وتوضيح الموقف العراقي. وتشير المصادر العراقية إلى ان غالبية الدول المدعوة كانت اما متحفظة او معارضة لمشاركة سوريا في القمة، من قطر الى تركيا وصولا حتى الى دولة الامارات التي استعادت علاقاتها مع دمشق رسميا منذ خريف العام 2019.

 كان الهدف الاسمى بالنسبة الى العراقيين ضمان إنعقاد اللقاء مع ادراكهم بان حضور سوريا يعزز الهدف المنشود من القمة، خاصة انهم، كما كل المدعوين، يدركون تماما كيف امتدت النيران السورية قبل سبعة اعوام لتحرق معها ثلث الاراضي العراقية، وفي الوقت نفسه، كيف دفعت سوريا في أعقاب الغزو العراقي للعراق أثمان إحتضانها المقاومة العراقية للإحتلال الأميركي.

ليست لدى المسؤولين العراقيين، وعلى رأسهم الكاظمي، اي شكوك حول هذه القناعات، لذلك، كان الاجدى، للعراق وسوريا، ان يتفاهما مسبقا على هذا الغياب السوري. وتقول المصادر العراقية، ان حكومة الكاظمي ستعمد الى تعويض هذا الغياب المنسق، بتكثيف مشاوراتها مع القيادة السورية، ومع الرئيس بشار الاسد تحديدا، اداركا منها لحجم الترابط والتداخل الامني والسياسي والاقتصادي والإجتماعي وحتى العائلي بين البلدين.

 تتابع المصادر أن بغداد، بالتنسيق مع القاهرة وعمان، تتحرك على خط دعم عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وعندها يصبح حضورها أي لقاءات عربية ودولية أمراً طبيعياً جداً.

عبداللهيان، حسب المصادر العراقية، وضع حداً لاحتمال انعقاد لقاء ثنائي بينه وبين وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، بعدما خالف البروتوكول التنظيمي بتعمده الوقوف خلال الصورة الجماعية للمشاركين في القمة، في الصف المخصص للملوك والرؤساء والامراء

ثانياً؛ المشاركة الإيرانية:

أثارت مشاركة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان إلتباسات كثيرة، أولها أن الكاظمي كان يأمل بمشاركة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وتاياً أن تشكل القمة، بمعزل عن مشاركة قادة آخرين مثل ملك السعودية أو ولي عهده أو الرئيس التركي، مناسبة لأول إطلالة خارجية للرئيس الإيراني وأن يقدم من خلال هذا المنبر العربي والدولي رؤية إيران لكيفية معالجة أزمات المنطقة والعلاقة مع دول الجوار الخليجية.

أما وأن الإيرانيين لديهم حساباتهم، فقد أوفدوا وزير خارجيتهم الجديد، وهي نقطة كانت موضع ترحيب عراقي، لكن اللافت للإنتباه أن إطلالة عبداللهيان الأولى خارجياً أثارت علامات إستفهام عديدة، خصوصاً وأن الرجل من صنف الديبلوماسيين الخبراء والضليعين بأمور البروتوكول، فضلاً عن إلمامه بملفات المنطقة العربية ومنها الملف العراقي.

كان مفهوماً أن تبدأ زيارة الوفد الإيراني من عند النصب التذكاري لكل من الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قرب سور مطار بغداد، نظراً للعلاقة المميزة التي كانت تربط عبداللهيان بسليماني، لا سيما وأن وزير الخارجية الجديد هو من المحسوبين تاريخياً على مؤسسة الحرس الثوري في قلب وزارة الخارجية الإيرانية، لكن الأمر إتخذ أبعاداً أخرى مع ما رافق حضور عبداللهيان وخطابه في القمة. ففي كلمته أثار مسألة حضور سوريا، قائلاً “نعتقد أنه كان ينبغي دعوة سوريا، كجار مهم للعراق، لحضور القمة”، في إنتقاد علني واضح للعراق المضيف.

كما أن عبداللهيان، حسب المصادر العراقية، وضع حداً لاحتمال انعقاد لقاء ثنائي بينه وبين وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، بعدما خالف البروتوكول التنظيمي بتعمده الوقوف خلال الصورة الجماعية للمشاركين في القمة، في الصف المخصص للملوك والرؤساء والامراء، بينما هو يتولى حقيبة الخارجية، وكان له مكان مخصص الى جانب الوزير بن فرحان مباشرة بالاضافة الى الوزير التركي مولود جاويش أوغلو وامين عام جامعة الدول العربية وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي.

وفيما يقول العراقيون ان الايرانيين (ومن خلال سفيرهم في بغداد إيرج مسجدي) كانوا طلبوا مثل هذا الاجتماع مع الوزير السعودي والذي قد يشكل مناسبة لإستئناف المباحثات التي جرت بين الطرفين منذ نيسان/ابريل الماضي بضيافة بغداد بهدف تهدئة التوترات وتفكيك الملفات الشائكة بينهما، بما في ذلك علاقاتهما الديبلوماسية المقطوعة منذ العام 2016، يقول الإيرانيون إنهم أبدوا تجاوبهم عندما طرح الجانب العراقي عليهم فكرة اللقاء الثنائي ولكنهم إشترطوا أن تأتي المبادرة من السعوديين!

إقرأ على موقع 180  بن زايد "يناكف" بايدن.. الأسد في الإمارات!

يذكر أن رئيس وزراء دولة الإمارات حاكم دبي محمد بن راشد قرر مغادرة القمة فور إنتهاء الكاظمي من إلقاء كلمته وكلّف عضو الوفد الإماراتي وزير الطاقة سهيل بن محمد المزروعي إلقاء كلمته بالنيابة عنه، في خطوة سبقت الإشكال البروتوكولي.. وكان العراقيون قد تبلغوها قبيل بدء أعمال القمة.

وما زاد الطين بلة أن كلمة عبداللهيان امام القمة، أثارت بدورها إلتباسات خاصة عندما قال ان حجم التبادل التجاري بين طهران وبغداد خلال السنوات الماضية، وصل إلى 300 مليار دولار، ما استدعى تدخل الكاظمي للتصحيح قائلا إن الرقم الصحيح هو 13 مليار دولار، فيما ظهر اعضاء في الوفد العراقي يبدون استهجانهم من الرقم الذي اعلنه الوزير الايراني.

ثالثاً؛ ردود الفعل العراقية:

كان من اللافت للإنتباه ان بعض الجهات العراقية راحت تصوب على القمة ومضيفها الكاظمي، حتى قبل انعقادها وتبيان نتائجها، وركزت بشكل لافت على “توقيت القمة”، وربطته بمحاولة لاستثمارها في الانتخابات البرلمانية المقبلة في تشرين الاول/أكتوبر والتي يفترض ان ينبثق عنها رئيس جديد للحكومة، وهو منصب كل قيادي شيعي يعتبر نفسه مؤهلا اليه.. وبطبيعة الحال، يسعى الكاظمي إلى ولاية حكومية ثانية، ولو أن أسلحته الدولية والإقليمية للتحشيد في هذا الإتجاه يقابلها عدم وجود رافعة سياسية عراقية تصب في الإتجاه نفسه، إلا إذا تمكن الكاظمي من إبرام إتفاق مع السيد مقتدى الصدر الذي تراجع عن قرار مقطعة الإنتخابات.. لكن الأهم هو أن الرسائل الإيرانية في القمة لا تصب في خانة الولاية الثانية للكاظمي!

وسواء كانت القمة ستصب في مصلحة الكاظمي سياسيا ام لا، وسواء كان الكاظمي يعمل فعليا من اجل تحقيق هذه الاستفادة، فان ذلك ليس هو القضية المركزية هنا، ذلك ان ما من مواطن عراقي يتابع حال بلده على صعيد الخدمات الرئيسية، بفعل سنوات طويلة من الهدر والفساد، يعوّل على هوية الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة، بقدر ما يتطلع الى سياسات تقود العراقيين إلى مرحلة افضل ولا سيما على صعيد الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وصحة وتعليم..

في الجلسة المغلقة جرى التفاهم على استكمال مشروع خط السكك الحديدية من شلمجة في ايران الى البصرة وصولا الى تركيا والبحر المتوسط والبحر الاحمر، وهو مشروع يفترض ان يرتبط ايضا بالعبور الى سوريا وصولا الى البحر

وما لم يعلن عن نتائج القمة هو المحك الحقيقي للنجاح، بغض النظر ما اذا كان الكاظمي او غيره سيستفيد سياسيا من ذلك. فالمشاريع التي تم التفاهم عليها في الجلسة المغلقة للقمة، أكبر من ان يتم تسييسها في لعبة المصالح والصراعات الداخلية الضيقة في العراق.. أو هكذا يؤمل ان تكون.

وتشي المعلومات انه بالاضافة الى التعهدات التي اعطيت لتعزيز الدعم الاقتصادي للعراق، خاصة من السعودية والامارات وقطر، وهي بمليارات الدولارات، فان دولة الكويت اعادت تذكير الحاضرين بان هناك التزامات اعطيت خلال مؤتمر الكويت لاعادة اعمار العراق قبل نحو عامين، تعهدت خلالها الدول المشاركة بتقديم 30 مليار دولار على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات لإعادة بناء ما دمرته الحرب مع الارهاب.

وأشارت مصادر عراقية الى اهمية تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الذي جاء ممثلا اردوغان، عندما قال “نحن مستعدون للمساهمة في إنشاء طريق سريع وسكّة حديد من فيش خابور إلى بغداد، وإعادة تأهيل الطرق السريعة والسكك الحديدية بين بغداد والبصرة، وإنشاء منطقة صناعية في الموصل، وتطوير ميناء الفاو وتطوير المشاريع في مجال الريّ وإدارة المياه”.

واكدت المصادر انه في الجلسة المغلقة جرى التفاهم على استكمال مشروع خط السكك الحديدية من شلمجة في ايران الى البصرة وصولا الى تركيا والبحر المتوسط والبحر الاحمر، وهو مشروع يفترض ان يرتبط ايضا بالعبور الى سوريا وصولا الى البحر.

وسبق للرئيس الايراني السابق حسن روحاني ان اعلن عن الربط بين شلمجة بإيران والبحر المتوسط في ايار/مايو الماضي، باعتباره احد اهم المشاريع الاقليمية التي تعمل عليها حكومته.

ومن بين ما اتفق عليه في كواليس القمة المغلقة، مشروع انابيب النفط الذي يشكل جزءا من مشاريع “الشام الجديد” المنبثقة من التنسيق الثلاثي بين مصر والاردن والعراق من خلال قمتهم التي عقدت قبل اقل من شهرين في بغداد. ويفترض بهذا المشروع ان ينقل النفط العراقي الى مصر ويستفيد منه الاردن.

وبينما يجري العمل على قدم وساق من اجل ربط العراق بالشبكة الكهربائية السعودية، جرى التفاهم في قمة بغداد على متابعة تطبيق مشروع استجرار الكهرباء من مصر عبر الاردن، وهي خطوة من شأنها ان تخفف من وطأة معاناة العراقيين الدائمة مع الكهرباء في بلد يعوم على بحيرة من النفط والغاز، ويعتقد انه انفق عشرات مليارات الدولارات خلال العقدين الماضيين، ليتبين ان المشاريع الكهربائية الموعودة، كانت مجرد أوهام.

ملاحظة اخيرة، خرجت من دهاليز القمة، عكست نوعا من الاستياء من التهديدات التي اطلقها الوزير التركي امام القمة، من استمرار وجود حزب العمال الكردستاني على الاراضي العراقية، فيما الوزير التركي يعلم ان هذا الحزب يحظى بتعاطف في البيئة الكردية العراقية وان الدفع باتجاه تحرك الجيش العراقي ضد مسلحي حزب العمال ومناصريهم من القوى الكردية في الشمال العراقي، ليس سوى دعوة مجانية الى الاقتتال الداخلي وسفك المزيد من دماء العراقيين.

Print Friendly, PDF & Email
خليل حرب

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بن سلمان يكرر "السيناريو القطري" في لبنان.. فهل ينجح؟