لم يكن قد خفت صدى الانتقادات الحادة التي تلقتها الإدارة الاميركية من أقرب حلفائها كما من خصومها جراء انسحابها المذل والفوضوي من أفغانستان مخلفة وراءها الآلاف من عملائها المحليين، حتى فجرت فضيحة تخلٍ جديدة، وكان التخلي هذه المرة ليس عن عميل هنا او جاسوس هناك، بل عن حليف أوروبي وازن هو فرنسا بما لها من ثقل في قيادة القارة العجوز، وقد ارفقت واشنطن تخليها هذا بـ”طعنة في الظهر” لهذا الحليف بحسب الوصف الذي قدمه وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان، تعليقاً على إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا.
وبعيدا عن الضجيج الإعلامي والغضب الدبلوماسي الذي خلّفته هذه الصفقة، فإن فرنسا بدت مثلها مثل أولئك الحلفاء الأفغان الذين تركهم الأميركيون على قارعة مطار كابول تحت رحمة حركة طالبان. هل هذا الوصف دقيق؟ وهل الغضب الفرنسي مبرر؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من قراءة الاستراتيجية التي تعتمدها الإدارة الأميركية في مطلع العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين، ومن البديهي ان ترتسم معالم هذه الاستراتيجية بعد تحديد العدو والصديق، ففي إدارة الرئيس جو بايدن، كما في إدارة سلفه دونالد ترامب، حدّدت الإدارة الأميركية ان المواجهة الجارية على المسرح الدولي هي بينها وحلفائها من جهة وبين الصين وحلفائها من جهة أخرى، وان كانت هذه المواجهة قد حملت وجها اقتصاديا بحتا في عهد ترامب فان خطوة بايدن (قضية الغواصات)، وضعت اللبنة الأولى لسباق تسلح محموم في المحيطين الهندي والهادىء يُخشى دخول الأسلحة النووية في سياقه، بسبب الطبيعة النووية للغواصات التي ستنشرها استراليا في هذه المنطقة وفق اتفاق “اوكوس” (AUKUS ( الامني مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
من المستبعد ان تفرط فرنسا بأي ورقة من أوراقها الاستراتيجية مثل ورقة “الناتو”، سواء لارتباطها ببوتقة الاتحاد الأوروبي الذي وان كان قد شارك فرنسا غضبها لكنه لا يزال ينظر الى أميركا كحليف لا بد منه في مواجهة روسيا
ان الانسحاب الأميركي من أفغانستان والاعداد للانسحاب من العراق وسوريا في ظل التنافس الاقتصادي الحاد مع الصين يؤشر الى ان أميركا تحاول التخلي عن نقاط ضعفها وتعزيز نقاط قوتها في صراعها مع الصين، فوجود قواتها في أفغانستان اشبه بوجود فار في فخ محكم، لان أفغانستان محاطة بالأعداء المفترضين لأميركا (الصين وروسيا وإيران) بالإضافة الى البيئة الأفغانية التي اثبتت انها بيئة معادية وغير حاضنة للوجود الأميركي.
وللتعويض عن الانسحاب الأميركي من هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة، كان لا بد من خطوة جريئة تؤكد وفق المنظور الأميركي نظرية تفوق الإمبراطورية الحديثة وقيادتها للعالم بعد ان اهتزت هذه الصورة كثيرا جراء الانسحاب من أفغانستان، فالانتشار شبه النووي الأميركي ـ البريطاني مع استراليا في المحيطين الهندي والهادىء، أي في الممرات المائية التي تمر فيها كل السفن المحملة بالبضائع الصينية الى مختلف انحاء الأرض وبالمحروقات على أنواعها التي تستوردها الصين من الخليج وايران وبلدان أخرى يعني ان حركة التجارة الصينية باتت تحت رحمة الثلاثي الانجلوسكسوني (أميركا، بريطانيا، استراليا)، وهكذا بالإمكان وصف هذه الخطوة الأميركية على انها تحديد خط الهجوم (وفق المنطق العدواني الأميركي) او خط الدفاع الأول (وفق منطق الحرص على التفوق) عن مصالح أميركا وبريطانيا، واذا اعتبرنا ان هذين المحيطين هما خط الدفاع الأول فاين هو خط الدفاع الثاني؟ انه بلا شك منطقة الشرق الأوسط التي وبالرغم من تقليص القوات الأميركية فيها في كل من سوريا والعراق، فان واشنطن تحتفظ بقواعد عسكرية كبيرة لها في قطر والسعودية ويضاف اليها توقيع اتفاقات “أبراهام” التطبيعية بين بعض الدول العربية و”إسرائيل”، ما يعطي الكيان العبري دوراً كبيراً في الحفاظ على تماسك هذا الخط في منطقة الخليج العربي الى جانب الدول المطبعة والحليفة لأميركا مثل الامارات العربية المتحدة والبحرين وفي منطقة القرن الافريقي ومع السودان على الشواطئ الغربية للمحيط الهادىء.
أزمة الثقة بين باريس وواشنطن لا يسهل ردمها بسهولة. الإعتراف الأميركي بالذنب ليس كافيا من وجهة نظر الفرنسيين، لكن باريس مضطرة للقبول بالمعاملة الأميركية المهينة، بذريعة “الواقعية السياسية”
ماذا عن دور أوروبا الحليفة لأميركا منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل فعلا تخلت أميركا عن تحالفها مع القارة العجوز؟
بطبيعة الحال لا، لان أوروبا، لا سيما الدول الغربية منها، كانت خلال سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي تشكل خط الدفاع الأول عما كانت الإدارات الأميركية وحليفاتها الغربية تسميه “العالم الحر”، وفي الصراع الحالي مع الصين ونظرا لتحالف الإمبراطورية الصفراء مع روسيا، فان أوروبا ستبقى خط دفاع أساسي في مواجهة روسيا، لذلك، سبق اتفاق الغواصات الأميركية لأستراليا تعمد الولايات المتحدة غض الطرف عن اتفاق نفطي فرنسي مع العراق في الأسبوع الأول من الشهر الحالي بقيمة 27 مليار دولار، وقد كان بإمكان واشنطن ان تعيق هذا الاتفاق لو ارادت لكنها على العكس أظهرت حسن نية لفرنسا فيما كانت تتحضر هي لصفقة الغواصات “الطعنة” مع استراليا. من هنا فان واشنطن تؤكد بخطوتها ان انسحابها من أفغانستان لم يكن ضعفا، بل هو إعادة انتشار عسكري وسياسي واقتصادي في مواجهة التمدد الصيني وسيكون لكل من حلفائها دوره التي تحدده هي في رحلة إعادة الإنتشار وليس على الحليف الا القبول بهذا الدور كما فعلت بريطانيا.
وهنا يبرز السؤال الآتي: هل تقبل فرنسا بهذه المعاملة الأميركية المهينة؟
في العام 2003 عندما قرر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن غزو العراق تصدت له فرنسا في مجلس الامن واسقطت قرارا كان يعمل الجانب الأميركي على استخدامه غطاء دوليا لغزوه لكن بريطانيا شاركت الى جانب الولايات المتحدة في الغزو حينها. غضبت فرنسا ورفعت الصوت عاليا لكن بقي الموقف الفرنسي في هذه الحدود ولم يترجم بأية خطوات عملية. اليوم كما الامس، وان اختلف الموضوع، هل تذهب فرنسا الى خطوات جذرية ضد الولايات المتحدة الأميركية ردا على اتفاق الغواصات؟
من المستبعد ان تفرط فرنسا بأي ورقة من أوراقها الاستراتيجية مثل ورقة “الناتو”، سواء لارتباطها ببوتقة الاتحاد الأوروبي الذي وان كان قد شارك فرنسا غضبها لكنه لا يزال ينظر الى أميركا كحليف لا بد منه في مواجهة روسيا، وأيضاً لان فرنسا ليست بوارد ان تتخذ موقفا بعيدا عن موقف الاتحاد الأوروبي مع الأخذ في الإعتبار أنها وألمانيا يتوليان زعامة هذا الاتحاد ولا مصلحة لهما بإضعافه.
على أي حال، شكل وجود وزيري خارجية فرنسا جان ـ إيف لودريان والولايات المتحدة أنتوني بلينكن، في نيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة مناسبة لكي يستعيد البلدان تواصلهما إستكمالاً للإتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيسان الأميركي جو بايدن والفرنسي ايمانويل ماكرون ولقرار الأليزيه بإعادة السفير الفرنسي إلى واشنطن. وقد كان لافتاً للإنتباه قول بلينكن إن المصالحة بين البلدين “تتطلب وقتاً وعملاً دؤوباً، ولن تُترجَم ببياناتٍ فحسب، بل أيضاً بأفعال”.
أزمة الثقة بين باريس وواشنطن لا يسهل ردمها بسهولة. الإعتراف الأميركي بالذنب ليس كافيا من وجهة نظر الفرنسيين، لكن باريس مضطرة للقبول بالمعاملة الأميركية المهينة، بذريعة “الواقعية السياسية”!