“مأرب ـ غراد”.. من كهوف صعده إلى قصر بلقيس!

مثلما كانت "ستالينغراد" معركة فاصلة في تاريخ الحرب العالمية الثانية، فإن "مأرب ـ غراد" ـ من وجهة نظر المدافعين والمهاجمين ـ في طريقها إلى أن تكون معركة فاصلة يمنياً، سعودياً.. وإيرانياً.

قبل ست سنوات، كان يمكن التنبؤ بردة فعل أهل المملكة العربية السعودية، لكن مع العهد الحالي، أصبح من الصعب القياس أو التوقع. الركائز التقليدية تتخلخل. أسرة آل سعود. المطاوعة. دولة الرعاية وغيرها. صحيح أن النفط ما زال موجوداً، لكن البدائل المستقبلية تستدعي أيضاً إعادة نظر. ليس صحيحاً أن الصراع على العرش قد حُسِمَ. لم تتوفر المشروعية الداخلية كلها، برغم إستقطاب شرائح جديدة، لا سيما النساء والشباب، غير أنه إستقطاب مرحلي. له صلاحية محددة إن لم يقترن بعناصر أخرى تتصل بالهوية وفرص العمل والتنمية وغيرها.. لم تتوفر المشروعية الخارجية. بالعكس، أدى تبدل الإدارة الأميركية إلى ما يُشبه الإنقلاب. النقزة نفسها موجودة أوروبياً.

“الهيبة” السعودية في الإقليم تتراجع بشكل قياسي. حرب اليمن كانت أسوأ وصفة لصناعة مستقبل الملك الثامن من بعد سلمان بن عبد العزيز. مملكة كانت تقاتل على أرض الآخرين حماية لأمنها القومي. “كان السّعوديّون يشكّلون أكبر مجموعة من المقاتلين الأجانب الّذين قاتلوا الجيش الأحمر في أفغانستان (5000 شخص) ومن إنتحاريي 11 أيلول/سبتمبر (15 من بين 19 عضواً) ومن سجناء غوانتانامو (115 من أصل 611)، ومؤخراً أكثر من 2500 من “الغرباء” قاتلوا في صفوف “داعش” في سوريا والعراق”، حسب الدبلوماسي والباحث الفرنسي بيار كونيزا في كتابه الشهير “الدكتور سعود.. ومستر جهاد”. هذه سيرة توجز أربعين سنة فقط. في موازاتها، إستطاعت المملكة توسيع نفوذها إلى قلب دوائر القرار الأميركي. إلى قلب أوروبا. صارت قوة مقررة في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. مؤثرة في شرق أفريقيا ووسط آسيا. تتحكم بمسارات عواصم عربية عديدة، منها بيروت بشراكة كاملة مع سوريا.

كان يمكن للدولة العربية الأغنى أن “تشتري” الدولة العربية الأفقر بـ”تراب المصاري” بالعامية اللبنانية. لو تصرفت المملكة في اليمن على طريقة ولي العهد الأسبق سلطان بن عبد العزيز، لكان بإمكانها أن تربح اليمن لعقود ولا تصرف أكثر من 5% مما كلّفتها حرب اليمن حتى الآن

هذه “المملكة” التي كنا نعرفها، أين هي اليوم؟

حتماً ليس بالخطط النيومية وحدها تحيا الممالك. ليس بمنح المرأة حق قيادة السيارة، برغم أهميته. ليس بالملاهي والحفلات والأغاني تنتعش الأجيال الجديدة. شاب في الثانية والثلاثين من عمره قرّر إعادة تشكيل مملكته ومعها كل الخليج والشرق الأوسط. أشعره دونالد ترامب أنه بالمال يستطيع أن يُحقق ما يشاء. إدفعْ. إدفعْ. وبالفعل، دفع الرجل طوال أربع سنوات.. ولكن الفاتورة كانت غالية جداً. من إستهداف حقل بقيق قبل سنتين إلى مأرب. ليس السؤال عن كيفية صرف مئات مليارات الدولارات، بقدر سؤال مردودها حتى الآن؟

هذه ليست مناسبة لقياس النفوذ السعودي في هذه الدولة العربية أو تلك. تعالوا نكتفي بسردية النفوذ في البيت الخليجي. نموذج محاصرة قطر إلى أين أفضى؟ نموذج العلاقات الإماراتية السعودية وإلى ماذا تؤشر مستقبلاً؟ نموذج التعامل السعودي مع اليمن؟

نماذج تستدعي مراجعة سعودية سريعة. كان يمكن للدولة العربية الأغنى أن “تشتري” الدولة العربية الأفقر بـ”تراب المصاري” بالعامية اللبنانية. لو تصرفت المملكة في اليمن على طريقة ولي العهد الأسبق سلطان بن عبد العزيز، لكان بإمكانها أن تربح اليمن لعقود ولا تصرف أكثر من 5% مما كلّفتها حرب اليمن حتى الآن.

عندما طلب عبد الفتاح السيسي رأي محمد حسنين هيكل في موضوع التدخل العسكري في اليمن، كان جواب الأخير حاسماً: “إيّاكَ ثم إيّاكَ أن تقفز إلى مثل هذه الحرب. خسارة شاب مصري هناك تفقدك الشرعية.. وشرعية الجيش حاجة مصرية في هذه المرحلة التاريخية”. لم يغِب عن بال هيكل ومعظم النخب المصرية والعربية كيف غرق جمال عبد الناصر في وحل اليمن قبل ستين عاماً.

تقاطعت عوامل الداخل اليمني العديدة (كإنتقال الحوثيين من “الثورة” ضد علي عبدالله صالح إلى التحالف معه ثم تصفيته لاحقاً)، مع عوامل خارجية، أبرزها دور “الهمس الإماراتي” في تحريض المملكة ضد جماعة الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح) في اليمن، كما في دول عربية أخرى. زدْ على ذلك، إلقاء كتلة زيدية مليونية في الحضن الإيراني. نزل الحوثيون من صعده إلى صنعاء. من الكهوف إلى القصور. بالمقابل، باتت الحدود السعودية مع اليمن مُشرعة على الفوضى الحتمية. تقترب النار أكثر فأكثر من أرض المملكة. فهل هذا هو “سر” معركة مأرب؟

منذ ست سنوات، صارت مأرب القاعدة العسكرية الأولى والأكبر لقوات التحالف ورأس حربة وعاصمة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي المعترف بها دولياً، ما يجعل موقعها الجغرافي الأهم والأكثر رمزية، سياسةً (الشرعية) وعسكراً (مقر وزارة الدفاع الفعلي). مأرب، اليوم، آخر معقل أساسي لحكومة هادي في شمال اليمن، بعد سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتياً، على عاصمة البلاد المؤقتة في عدن (جنوب)، مطلع أغسطس/آب 2019.

تجدّدت معركة مأرب في صيف العام 2020. قبلها حصلت معارك كر وفر منذ العام 2015. لطالما ردّد الحوثيون والعديد من حلفائهم في الآونة الأخيرة أن مأرب قاب قوسين وأدنى من السقوط، لكنها صمدت أكثر من خمسة عشر شهراً بفضل جغرافيتها وبنيتها القبلية وشراسة مقاتليها ودعم السعوديين، براً وجواً، لقوات هادي و”الإصلاح”.

إذا سيطر الحوثيون على مأرب ـ وهم أمسكوا بالبوابتين الجنوبية والغربية ـ فإنها تسهّل لهم إمتدادهم إلى محافظات أخرى في الجنوب وتفتح الطريق أمامهم نحو حضرموت. هي المنطقة التي لم يتمكن أنصار الله (الحوثيون) من السيطرة عليها برغم محاولاتهم الحثيثة لدك أسوارها منذ ستّ سنوات، حتى قبل تدخّل “التحالف العربي” بقيادة السعودية.

قريباً سيتم نقل المندوب الإيراني وبقية الموظفين الإيرانيين في منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة إلى القنصلية الإيرانية في الرياض، ثم يأتي المندوبون السعوديون إلى طهران قريباً تحضيراً لإعادة فتح القنصلية السعودية هناك على أن يتم اعلان موعد بدء العمل الرسمي في القنصليتين قبل نهاية العام الحالي

لكن مع إقتراب الحوثيين من عاصمة محافظة مأرب، ثمة مفارقات قد تؤدي إلى خلط كبير للأوراق. فجأة، قرر طارق صالح (إبن شقيق علي عبدالله صالح) الإعتراف للمرة الأولى بشرعية حكومة هادي. فتح الأبواب للمرة الأولى مع “الإصلاح” (الإخوان). بعث برسائل سريعة إلى جميع خصوم الحوثيين. ردّ عليه محافظ مأرب سلطان العرادة مُثمناً ومُباركاً. القيادي البارز في حزب التجمع اليمني للإصلاح الشيخ حميد الأحمر، الخصم التاريخي لآل صالح، تلقف إيجاباً رسالة صالح. هذا الإصطفاف المفاجىء بين هذه المكونات الثلاثة (آل صالح والإخوان وحكومة هادي) ومعها تجمعات قبلية في المحافظات الجنوبية يشي بضغط سعودي ـ إماراتي كبير من أجل منع سقوط مأرب “مهما كان الثمن”!

إقرأ على موقع 180  جوار الهند.. قلقٌ مقيمٌ من طموحات القوميين الهندوس

الرياض تُدرك أن ما بعد سقوط مأرب بأيدي الحوثيين، سيكون مختلفاً عما قبله. لا يقتصر الأمر على الميدان. أي يمنٍ جديد سيولد (ماهية الصيغة التي ستحكم دولة الشمال)؟ من سيتحمل كلفة إعادة إعمار دولة شمالية محسوبة بالكامل على إيران؟ من سيتحكم بالممرات المائية عند باب المندب والبحر الأحمر؟

ثمة أسئلة وأبعاد أخرى. مأرب غنية بالنفط وفيها كميات واعدة من الغاز المُسال، ما يُضيف بُعداً إقتصادياً مهمّاً للصراع حولها. توجد فيها مصفاة صافر (10 آلاف برميل من النفط يومياً). هي أيضاً من أبرز المحافظات الزراعية، بالاضافة الى كونها محافظة تضم أهم المواقع الأثرية والتاريخية (مدينة براقِش؛ عرش الملكة بلقيس ملكة حضارة سبأ).

ووفقاً لنتائج معركة مأرب، ترتسم رهانات قوى يمنية وإقليمية. الحوثيون سخّروا إمكاناتهم العسكرية للانتصار في هذه المعركة، “مهما كان الثمن”، ما يجعلهم اللاعب السياسي الأقوى وشبه الوحيد في شمال اليمن، سيما إذا أدت المفاوضات الى اعادة قُسمة اليمن الى شطرين شمالي وجنوبي، على غرار ما كان حاصلاً قبل الوحدة في تسعينيات القرن الماضي.

في المقابل، تراهن حكومة هادي على صمود مأرب وترى فيه نصراً، ولو محدوداً، فهو يُبقي حضورها محلياً ودولياً، ويكسر الصورة النمطية لقدرات “أنصار الله”. بدوره، “يُعوّل” المجلس الانتقالي الجنوبي – المدعوم إماراتياً – على نتائج المعركة. “إنتصار” الحوثيين يوفر فرصة لتسريع المفاوضات بين الشمال والجنوب وتحديداً بين “المجلس” والحوثيين، بوصفهما الممسكين بالأرض.

في جولات المفاوضات الأربع بين طهران والرياض، لم يتقدم عند السعوديين ملف على اليمن. الوجع السعودي تُرجم إنفعالاً في أول جلسة وشبه تقبل للأمر الواقع في آخر جلسة، قال الطرفان إنها إتسمت بالصراحة. لسان حال الإيرانيين لم يتغير. تعالوا نتفق على ملف العلاقات الثنائية، وهو سيكون عنصراً مساعداً ومُسهلاً لباقي الملفات. بطبيعة الحال، لا يريد السعوديون أن يسمعوا بكلمة لبنان. ينظرون إلى لبنان من زاوية شراكة حزب الله مع الحوثيين في تدفيعهم كلفة حرب اليمن. قالها الإيرانيون مرة وإثنتين وأربع مرات. تحاوروا مع الحوثيين. نحن مستعدون للعب دور الوسيط ولكن لا أحد يحل محل الحوثيين. لم يأتِ الجانب الإيراني على ذكر عبارة “إذهبوا وفاوضوا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية”. لا الواقعة صحيحة ولا الإيراني بهذه الخفة ولا نصرالله يُمكن أن يقبل بمثل هكذا دور ولا الحوثي يعتبر نفسه يقاتل بالوكالة عن هذا أو ذاك!

وفق مرجع دبلوماسي عربي واسع الإطلاع، إلتقى المفاوضون الحوثيون والسعوديون في عُمان، في أعقاب جولة الحوار السعودية ـ الايرانية الرابعة. رفض “أنصار الله” عرض الرياض الذي كانوا يعرفون مضمونه عبر وسطاء دوليين سابقاً. صارت شروطهم لوقف النار أصعب من قدرة السعوديين على تحملها. الرسالة واضحة: لن نفاوض إلا بعد سقوط مأرب آخر معاقل حكومة هادي المعترف بها دولياً!

فشلٌ لم يُعكر مسار التفاوض السعودي الإيراني كلياً. في موازاة تأزم الموقف من بيروت إلى بغداد، تم التوصل إلى جدول زمني لإعادة فتح القنصليات، بعد أن قدّم الإيرانيون إعتذارهم على إستهداف السفارة السعودية في طهران. قريباً سيتم نقل المندوب الإيراني وبقية الموظفين الإيرانيين في منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة إلى القنصلية الإيرانية في الرياض، ثم يأتي المندوبون السعوديون إلى طهران قريباً تحضيراً لإعادة فتح القنصلية السعودية هناك (لاحقاً القنصلية السعودية في مشهد)، على أن يتم اعلان موعد بدء العمل الرسمي في القنصليتين قبل نهاية العام الحالي. ثمة إرادة سياسية (ليس معروفاً ما إذا كانت إستراتيجية أم تكتيكية) بالمضي في المفاوضات وإستئناف العلاقات الدبلوماسية “في أقرب وقت ممكن” حسب المرجع الدبلوماسي العربي نفسه. الجولة الخامسة سيُحدد مكانها وزمانها قريباً. يريد الإيرانيون وضع موضوع مناسك الحج والعمرة على جدول الإعمال. هذه المفاوضات تستمر بقوة دفع أميركية موازية لمسار فيينا الذي سيُستأنف في التاسع والعشرين من الجاري. إذا تعثر الأخير سيتعثر حتماً المسار السعودي الإيراني، وإذا تقدم، سيتقدم حوار طهران ـ الرياض برعاية بغداد.

وماذا عن لعبة الأواني المستطرقة من مأرب إلى بيروت وبغداد.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  صفقات مبارك والإخوان.. "إنها الديمقراطية"!