

في أوائل آذار/مارس الماضي، بعث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، برسالة إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله السيد علي خامنئي، يقترح عليه فيها “التفاوض المباشر” بشأن اتفاق نووي جديد (…). هناك أسباب تدعو للأمل في أن تنجح مبادرة ترامب. فالرئيس الأميركي مولعٌ بعقد الصفقات، وقد صرّح أكثر من مرَّة بأنه يريد أن يجعل إيران مزدهرة من جديد؛ لكن هناك أسباب للخوف. فحتى مع ترحيبهم بالمحادثات، صعّد المسؤولون في إدارة ترامب الضغط على طهران، وضاعفوا من فرض العقوبات – وهو نهجٌ يبدو أنه يهدف إلى إفلاس إيران – وشُنَّت غارات جوية على جماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، المدعومين من إيران. بل إن ترامب نفسه منح إيران مهلةً زمنيةً ضيقةً مدتها شهران للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، وهدَّد صراحةً بمهاجمتها “إذا فشل الاتفاق”.
لا ينبغي لأحد أن يرغب في نشوب حرب بين الطرفين. فإذا ضربت أميركا منشآت إيران النووية، فقد تُعيق البرنامج مؤقتاً، وحينها ستُضاعف طهران جهودها النووية، وسترد فوراً بضربات من شأنها أن تزيد من تفاقم الاضطرابات في الشرق الأوسط. ويبدو أن هذا ما دفع ترامب للقول إن “الجميع مقتنع بأن إبرام اتفاق أفضل الخيارات”.
التقديرات تشير إلى أن إيران على وشك أن تصبح القوة النووية العاشرة في العالم
لكن بدء المفاوضات شيء، والتوصل إلى اتفاق شيء آخر. لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على إلحاق ضرر اقتصادي كبير بالجمهورية الإسلامية: كلاهما كان واضحاً خلال فترة رئاسة ترامب الأولى ومع عقوبات “الضغط الأقصى” الاقتصادية التي أعاد إحياءها. ولكن لكي يحقق ترامب إنجازاً دبلوماسياً، يجب أن يسعى لتحقيق أهدافٍ قابلة للتحقيق بدلاً من توقع استسلام صريح من طهران. والمسؤولون الإيرانيون يعتقدون أن الشيء الأكثر خطورة من العقوبات الأميركية القاسية هو الاستسلام للشروط الأميركية المتطرفة.
تحويل الضغوط إلى دبلوماسية
هذا لا يعني أن الضغط لا تأثير له في الدبلوماسية. فطهران على استعداد للتحدث مع إدارة ترامب أكثر مما كانت مع إدارة سلفه جو بايدن، لأن إيران اليوم أكثر ضعفاً مما كانت عليه منذ عقود، بسبب تراكم التأثير السلبي للعقوبات على اقتصادها. وأيضاً بسبب الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة منذ 18 شهراً، والتي أنهكت شبكة حلفائها وأضعفت دفاعاتها الجوية.
لكن يجب أن لا يكون الضغط فقط من أجل الضغط. يجب أن تكون للضغوط الأميركية أهداف واقعية. ففي النهاية، الاتفاق الذي تم التوصل إليه في عام 2015 لم يكن بفضل العقوبات وحدها، بل وأيضاً لأن واشنطن تنازلت عن شرط أن وقف البرنامج النووي الإيراني بالكامل، واكتفت بأن تُبقي مخزونات إيران من اليورانيوم والبلوتونيوم مقيَّدة وتخضع لمراقبة مكثفة.
فإذا كان ترامب يريد حقاً إبرام اتفاق، فيجب عليه – مثل إيران – أن يكون مستعداً للتكيف إلى حدٍ ما؛ على الأقل. على سبيل المثال، ينبغي على ترامب أن يكون مستعداً للسماح لإيران بالاحتفاظ بعناصر من برنامجها النووي أو ترسانتها الصاروخية وفي الوقت نفسه يمضي في رفع العقوبات، بما في ذلك تلك المفروضة على تجارة النفط الإيرانية، والإفراج عن أصول إيران المجمدة. وإذا لم يفعل سوف تفشل المحادثات وتتوقف، ما يعني جرّ الجميع إلى حرب إقليمية، وهذا ما لا يريده أحدٌ- ويتعارض مع المصالح الأميركية بلا أدنى شكّ.
العد التنازلي النهائي
برغم أن الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 كان معقداً إلى حدٍ ما، إلا أنه كان صفقةً سهلةً نسبياً. فقد قبلت طهران بالقيود التي فُرضت على برنامجها النووي، ووافقت على اتباع إجراءات شفَّافة في مقابل أن تُخفف العقوبات عنها. الاتفاق لم يُحدّ من برنامج إيران الصاروخي، ولا من دعمها لحلفائها في المنطقة. فهذا كان الشرط الذي وضعته طهران لكي توقع. لكن الاتفاق فرض قيوداً صارمةً على سلوكها ما بعد التوقيع: الحدّ من عمليات تخصيب اليورانيوم وتخزينه، وإبقاء منشآتها النووية مفتوحة أمام المفتشين الدوليين.
في العام 2018، انسحب ترامب من الاتفاق، فسرّعت طهران وتيرة التخصيب، حتى باتت اليوم قادرة على إنتاج المواد الانشطارية اللازمة لتصنيع رأس نووي، وفي غضون أيام فقط. كما باتت تمتلك مخزوناً من اليورانيوم المخصّب يُمكنها من صنع أسلحةٍ متعددة. وتشير معظم التقديرات إلى أن إيران، إذا أرادت، يُمكنها صنع قنابلَ جاهزة للاستخدام في غضون بضعة أشهرٍ فقط. بمعنى آخر، إيران على وشك أن تصبح القوة النووية العاشرة في العالم.
وقد بدأ العديد من النُخب السياسية الإيرانية يطالب بامتلاك أسلحة نووية. فشبكة الحلفاء (“محور المقاومة”) أصبحت ضعيفة إلى حدٍ ما، بسبب تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة (…)، وإضعاف إسرائيل لحزب الله في لبنان سبَّب لإيران انتكاسة كبيرة (…)، لذلك بدأ المتشددون في طهران ينادون، بشكل متزايد، بأنهم بحاجة إلى سلاح نووي للحفاظ على أمن إيران.
وعلى النقيض، لا يزال خامنئي ينظر إلى البرنامج النووي على أنه وسيلة ضغط تفاوضية. وقد يخشى أيضاً من أن تُلاحظ الاستخبارات الإسرائيلية أو الأميركية اندفاعاً نحو التسلح، فيتخذونها حُجَّة لتوجيه ضربة عسكرية. ولكن مع تصاعد التوترات، في المنطقة وحول إيران، فمن المرجح أن يواجه خامنئي المزيد من الضغوط من داخل المؤسسة الإيرانية لكي يوافق على إنتاج سلاح نووي.
التوصل إلى اتفاق مُمكن: إيران بحاجة إليه، وترامب يريده. وأي بديل عن المفاوضات الناجحة سيكون كارثياً على الجميع
الوقت ينفدُ أيضاً أمام التوصل إلى حلولٍ أخرى. تضمّن الاتفاق النووي لعام 2015 آلية “سناب باك”، المصمَّمة للسماح لأي من أطراف الاتفاق بإعادة فرض العقوبات الدولية. إلّا أن العمل بهذا البند ينتهي في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل. وفي غياب أي حلٍ سلمي لوقف تقدم البرنامج النووي الإيراني، فمن المرجح أن تُفعّل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة آلية “سناب باك”. قد ترغب الصين وروسيا في منع سريانها، لكن حق النقض (الفيتو) المُعتاد في مجلس الأمن الدولي لن يُطبّق في هذه الحالة (بفضل بند صريح في الاتفاق النووي). ستؤكد القوى الغربية – على الأقل نظرياً – أن الجمهورية الإسلامية تخضع مرة أخرى لقيود ما قبل عام 2015.
من جانبها، هدَّدت إيران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي إذا عادت العقوبات، ما سيُمَهّد الطريق أمامها لتقليص جميع عمليات المراقبة الرسمية لبرنامجها. وسيواجه ترامب بدوره ضغوطاً أكبر من القادة الإسرائيليين، والصقور في واشنطن، لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران. وقد يخطر ببال إسرائيل أن تبادر لشنّ هجوم بمنفردها وهو أيضاً سيجرّ أميركا للحرب بالتأكيد.
ومع ذلك، من غير المرجَّح أن ينجح أي هجوم أميركي-إسرائيلي في إنهاء البرنامج النووي الإيراني. فالجمهورية الإسلامية تمتلك كميات هائلة من المواد المُخصبة، وتُخزّن عدداً كبيراً من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في أماكن كثيرة جداً، مما يُصعّب على الجيشين الأميركي والإسرائيلي تدميرها بالكامل. كما أنَّ لدى إيران العديد من الخبراء النوويين القادرين على إحياء برنامج نووي متكامل من تحت الأنقاض. حتى تقديرات الاستخبارات الأميركية الخاصة تُشير إلى أنه حتى لو أصيب البرنامج النووي الإيراني بهجوم عسكري، فستكون الانتكاسة قصيرة الأجل، وسيستعيد توازنه خلال بضعة أشهر فقط. وحتى تستطيع الولايات المتحدة وقف البرنامج النووي الإيراني باستخدام القوة، ستحتاج لتوجيه عدد لا يُحصى من الضربات العسكرية، وبشكل مُتكرر، من دون توقف، ولفترات ليست بقصيرة. أو سيكون عليها شنّ عملية لتغيير النظام من الداخل وكسر الحلقة المفرغة، وهذا له نتائج مُدمرة وغير مضمونة أبداً.
توجيه ضربة عسكرية لإيران قد يُؤدي أيضاً إلى تصعيد أمني كبير في الإقليم كله. قد تكون شبكة حلفاء إيران ضعيفة، لكن لا يزال أمامها خيارات – لا سيما من خلال الحوثيين أو الجماعات المدعومة من إيران في العراق – بالإضافة إلى مخزوناتها من الصواريخ الباليستية. قد تنتقم من إسرائيل ومن الأصول والقوات والمصالح الأميركية. وكما أشار تقييم استخباراتي أميركي حديث، فرغم الجراح والإصابات التي لحقت بإيران خلال العام الماضي، لا تزال قادرة على “إلحاق أضرار جسيمة بالمهاجمين، وتنفيذ ضربات إقليمية، وتعطيل حركة الملاحة”. بل إن إيران قد تضرب البنية التحتية النفطية في الخليج، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط.
الاتفاق أو فوضى الحرب
هذه الحقائق كلها قاتمة بلا شك. لكن لا أحد سيستفيد من حرب أميركية إيرانية، وبالتالي لدى الجميع حافز لتجنب هذه الحرب. وهذا يمنح الدبلوماسية فرصة.
يمكن للمحادثات أن تضع الأمور على مسارٍ واعدٍ. لذلك، ينبغي على الأطراف السعي من أجل تحقيق هدفين أساسيين: توضيح صيغة المشاركة، وتحديد النطاق الواسع للهدف النهائي. المخاطر كبيرة جداً والوقت قصيرٌ جداً بالنسبة للإيرانيين (…). من جانبها، يجب على الولايات المتحدة أن تضع في اعتبارها أن “نموذج ليبيا”، الذي يطالب بالتفكيك الكامل للبنية التحتية النووية الإيرانية (كما اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) من غير المرجح أن ينجح.
من ناحية أخرى، يُمكن للقيود والشفافية أن تساهما، بشكل كبير، في معالجة المخاوف المتعلقة بحظر الانتشار، مما يُبعد برنامج الجمهورية الإسلامية عن العتبة النووية. إن إيجاد أرضية مشتركة كافية حول هذه القضايا، يُمكن أن يُسهّل إجراء مناقشات مكثَّفة ومفصلة حول النقاط الدقيقة.
ولكي تنجح المحادثات، يجب أيضاً على طهران وواشنطن إدراك المتطلبات الدبلوماسية الخاصة بكل منهما. لن تُفاوض إيران بشكل سليم إذا وجّهت واشنطن مسدساً نحو رأسها. لن يُجري ترامب محادثات جادَّة ما لم يتمكن من الانخراط في نوع الدبلوماسية المباشرة والشخصية التي يرغب فيها – أي من خلال لقاء مباشر مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان – والتي حُرم منها جميع أسلافه. بعبارة أخرى، على الجانبين أن يتصالحا مع كيفية تعامل الطرف الآخر مع المفاوضات إذا أرادا حقاً إيجاد أرضية مشتركة.
تتمثل إحدى طرق زيادة زخم محادثات عُمان، وحمايتها من الفشل، هي أن يتدخل ترامب، الذي يُرجّح أن يكون داعمها الرئيسي، مباشرةً في العملية الدبلوماسية. يُظهر سجل ترامب، خلال ولايته الأولى، بوضوح أنه ليس متساهلاً مع إيران. إذا كان سيتم التوصل إلى اتفاق نووي، فقد يكون ترامب في وضع مميز يُمكّنه من حشد دعم المتشددين الأميركيين له، تماماً كما تمكّن الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون من زيارة الصين وتحسين العلاقات معها. يُمكن لترامب دفع العملية قُدماً من خلال تقديم مُقايضة بسيطة لكنها جوهرية تفتح الباب أمام دبلوماسية مباشرة رفيعة المستوى: تعليق العقوبات المشدَّدة مؤقتاً، مقابل تعليق إيران تخصيب اليورانيوم للفترة الزمنية نفسها. قد يُمهّد ذلك الطريق لاجتماع على المستوى الرئاسي الذي سعى إليه ترامب منذ فترة طويلة. إذا كانوا جادّين في دفع المحادثات قُدماً، فينبغي على عُمان، أو السعودية، أو الإمارات، أو أي وسيط آخر يحترمه ترامب اقتراح مثل هذا الترتيب. يُمكنهم حينها استضافة الاجتماع الرئاسي والمناقشات الفنية اللاحقة.
لدى إيران والولايات المتحدة تاريخٌ مريرٌ حافلٌ بالعداء. هناك هوةٌ من انعدام الثقة بين البلدين، وعلى الدبلوماسية أن تسُدَّ هذه الهوة. فالتوصل إلى اتفاق لايزال مُمكناً: إيران بحاجة إليه، وترامب يريده. في حين أن أي بديل عن المفاوضات الناجحة سيكون كارثياً على الجميع.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) كومفورت هيرو، الرئيس والمدير التنفيذي لـ”مجموعة الأزمات الدولية”.