لم يكُن مفاجئاً طرح المسؤولين الأميركيين مجدداً فكرة الحوار المباشر مع الإيرانيين، لكن المستجد هو عدم مسارعة طهران، كما جرت العادة، إلى نفي مثل هذا الإحتمال وإستبعاده بالمطلق.
وبحسب التقويم الأوروبي للجولة الأخيرة من المفاوضات، فإنها كانت “الأكثر كثافة”، ما جعل الأمور تصل إلى المراحل النهائية، بحيث حان وقت إتخاذ “القرارات السياسية” في العواصم المعنية. وقبل التقويم الأوروبي المتفائل، أوحى كلام رئيس الوفد الأميركي روبرت مالي في وقت سابق من الأسبوع الماضي، بأن الأمور ربما وصلت إلى خواتيمها، عندما تحدث عن أنه لا يمكن تصور التوصل إلى إتفاق في فيينا من دون الإتفاق على تبادل السجناء بين الولايات المتحدة وإيران. هذا يفترض الإنتهاء من الموضوع النووي بحد ذاته.
في الوقت نفسه، لا تُريد واشنطن إنهاء المفاوضات عن بعد، كما بدأت. لذا، عادت إلى الحديث عن ضرورة الحوار المباشر، عقب زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو، الأمر الذي ينطوي ضمناً على إستعداد أميركي لإبداء مرونة ما، شرط قبول المفاوضيين الإيرانيين بالجلوس إلى طاولة واحدة، سواء بحضور الأطراف الأخرى الموقعة على الإتفاق النووي أو من دونهم. توقيت الكلام الأميركي مع عودة رئيسي من موسكو، يدل على أن ثمة في الولايات المتحدة من لا يريد أن تتحول إيران بالكامل إلى دولة تعتمد إستراتيجياً على الصين وروسيا.
لا بد هنا من إيراد تفصيل شكلي. إذ أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هي التي طرحت قبل بدء مفاوضات فيينا في نيسان/أبريل الماضي، صيغة الحوار المباشر. لكن القيادة الإيرانية رفضت ذلك “عقاباً” لواشنطن على إنسحابها الأحادي من الإتفاق عام 2018 في ظل رئاسة دونالد ترامب. فكانت صيغة إجراء المفاوضات بين إيران والقوى العالمية الأخرى التي بقيت ملتزمة الإتفاق في فندق قصر كوبورغ بينما الوفد الأميركي في فندق آخر، ويتحرك الوسيط الأوروبي أنريكي مورا غالباً بين الوفدين الأميركي والإيراني ناقلاً المقترحات والمقترحات المضادة.
وثمة عاملاً آخر لا بد من أخذه في الإعتبار وربما يلعب دوراً حاسماً في دفع إدارة بايدن إلى التشديد على الحوار المباشر وتعداد “مزاياه” على ما قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس. فعلى سبيل المثال، يُكرّر المسؤولون الأميركيون ولا سيما وزير الخارجية أنطوني بلينكن، أن المهلة للتوصل إلى إتفاق في فيينا ليست مفتوحة وإنما تقاس بـ”الأسابيع” وليس بالأشهر. هذا أمر مرده ليس فقط الخوف من التقدم الحاصل في عملية تخصيب اليورانيوم وإحتمال بلوغ طهران “العتبة النووية”، وإنما ذلك عائد إلى الوضع في الداخل الأميركي، الذي ستشتد فيه الحملات للإنتخابات النصفية في الأشهر المقبلة. وتشير التوقعات إلى إحتمال سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس وعودة شبه مؤكدة لترامب إلى البيت الأبيض في 2024، وتالياً تصير إدارة بايدن مغلولة اليدين في العامين المقبلين، ولا يعود في مقدورها تقديم تنازلات في الملف النووي الإيراني.
من هنا يسابق فريق بايدن الوقت كي ينتهي من مسألة العودة إلى الإتفاق النووي قبل الإنتخابات النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وفي سبيل هذه الغاية عاد إلى طرح فكرة المفاوضات المباشرة، تسريعاً لعملية إحياء الإتفاق.
بعد فيينا، والحوار السعودي-الإيراني المزمع إستئنافه قريباً، قد يلعب الإيرانيون دوراً في التوصل إلى حل سياسي للنزاع اليمني.. وسيتلقى العراق أيضاً الإنعكاسات المباشرة لنتائج فيينا، بعدما كان ساحة تنازع رئيسية بين أميركا وإيران، ومنصة لتبادل الرسائل الساخنة بين الجانبين. وما يصح على العراق قد يصح على لبنان المتمادي في الإنهيار على وقع التجاذب الإقليمي والأميركي-الإيراني
وتُسلّط إستقالة نائب رئيس الوفد الأميركي ريتشارد نيفيو الضوء على الإنقسام الأميركي حيال طريقة إدارة المفاوضات مع إيران. وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، فإن نيفيو كان يؤيد إلتزام نهج أشد صرامة في فيينا.
واللافت للإنتباه أيضاً، أن طهران أطلقت للمرة الأولى إشارة إلى إحتمال قبولها التفاوض المباشر، شرط أن يؤدي الأمر إلى “إتفاق جيد”، وفق تعبير وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. أما رئيسي فاكتفى في المقابلة مع التلفزيون الإيراني بالقول إن طرح الأميركيين الحوار المباشر “ليس بالأمر الجديد، ولكننا لم نجلس معهم حتى الآن”، في ردٍ تعمد فيه الغموض حيال إحتمال حصول مثل هذا الأمر مستقبلاً.
بهذه الحدود، يفترض الموقف الإيراني الحصول على مكاسب من الحوار المباشر قبل الموافقة عليه. ولا تزال الحكومة الإيرانية مثلاً ترفض ربط الملفات الخلافية مع أميركا مع بعضها البعض. وحتى تبادل السجناء لا يريد الإيرانيون ربطه بالتوصل إلى إتفاق في فيينا.
وبطبيعة الحال، فإن إحياء الإتفاق النووي وجلوس الأميركيين والإيرانيين إلى طاولة واحدة، من شأنه أن ينعكس على الإقليم، ويهديء التوتر الذي تصاعد منذ إنسحاب ترامب من الإتفاق عام 2018، ومن ثم قراره إغتيال قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في بغداد في 3 كانون الثاني/يناير 2020.
ولن يكون في الإمكان تخفيف التوتر في الشرق الأوسط، إذا ما استمرت حرب اليمن. وبعد فيينا، والحوار السعودي-الإيراني المزمع إستئنافه قريباً، قد يلعب الإيرانيون دوراً في التوصل إلى حل سياسي للنزاع اليمني، الذي أجّجته الخلافات الإقليمية والصراع مع أميركا في السنوات الأخيرة.
وسيتلقى العراق أيضاً الإنعكاسات المباشرة لنتائج فيينا، بعدما كان ساحة تنازع رئيسية بين أميركا وإيران، ومنصة لتبادل الرسائل الساخنة بين الجانبين. وما يصح على العراق قد يصح على لبنان المتمادي في الإنهيار على وقع التجاذب الإقليمي والأميركي-الإيراني.
قد يعبر إحياء الإتفاق النووي بالشرق الأوسط إلى مرحلة من الإنفراج النسبي ويفتح آفاقاً للحوار والتسويات.