أدعي إنني في كل مرة سمعت أو قرأت وجهة نظر هذا أو ذاك في الحدث الأوكراني، وجدت فيها بعض المنطق، حتى وإن بلغت حد التضارب والتوازي الذي لا أمل بعده من التقاء. سمعنا أو قرأنا معزوفة الاعتداء على دولة مستقلة وذات سيادة. أحلام بوتين باستعادة أمجاد بطرس الأول أو استعادة بعض من كيان اتحاد سوفياتي رميم، لكن هل نترك عقولنا فريسة انتقادات ممجوجة وتحليلات ساذجة لشخصية بوتين. منهم من قال إنه فقد عقله، وراح خبراء لغة الجسد يقرأون حركاته وإيماءاته قائلين بأنها تعبر عن غضب وحنق شديدين نحو أمريكا. وأضاف آخر بأن الرجل يسعى للجمع بين تسلط القيصرية وسطوة السوفياتية، وزاد رابعهم قائلاً “هذا هو هتلر الجديد”.
ألا تتفق معي بأن بوتين كان محقاً في إطلاق وصف “امبراطورية الكذب” على أصحاب هذه الحملات اللاغية للعقل؟
دعك من كل هذا، واهرب من الكلام الفارغ Empty Rhetoric لدقائق معدودة، لنفكر في الأمر بعقول تدفع تحيزاتها إلى الهامش. أعتقد أنك ستتوصل إلى الرأي ذاته:
بوتين نجح.. كالعادة.
نعم، نجح في ما أراد، مهما قلت عنه وأياً كان الطرف الذي تتحيز له. بل وأياً كانت نتيجة هذه الحرب.
ثمة هاكر مزعج، لكنه قادر على إرباك الحسابات وإثارة القلق. فهل يعني ذلك أن هذا الهاكر قادر على التسبب في هزيمة سياسية بحجم هيلاري كلينتون في سباق الرئاسة في مواجهة مرشح من خارج الصندوق اسمه ترمب؟ أليس هذا ما زعمه ديمقراطيو أمريكا؟
اسمح لي عزيزي القارىء أن أعرض عليك حيثيات ما قدمت من رأي، ربما تراه متحيزاً ومثيراً للجدل، بينما أراه ينتمي إلى المدرسة الواقعية.
أتذكر عزيزي حينما حاول الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي، الذي “أخذته الجلالة الأمريكية”، فانجلى في مناوشاته السياسية الداخلية، وخاض حملته التأديبية ضد الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية (شمال بلاده)، فتدخلت روسيا لتأديبه. أتتذكر علام انتهى الأمر؟
سيطرت روسيا بالقوة العسكرية على أوسيتيا، وقام الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف، ومن وراءه بوتين الذي أخذ حينها خطوة مؤقتة للوراء نحو منصب رئيس الوزراء، بإعلان قيام الجمهوريتين المستقلتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والاعتراف بهما. ولا داعي للخوض في تفاصيل ما جرى مع ساكاشفيلي حليف الولايات المتحدة منذ ذلك الحين حتى الآن، فهي قصة غرائبية دالة، ولكنها ليست محل تفصيل الآن.
تذكر كيف نجح بوتين في استفزاز وإرباك حسابات الولايات المتحدة، صحّ الأمر أم كذّب. تدخل روسي في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لتقويض حملة هيلاري كلينتون؛ مساندة دونالد ترمب بالإضافة إلى بيرني ساندرز وجيل ستاين. أتتذكر عزيزي القارىء أنه تم الحكم على أمريكيين بالسجن بتهمة التعاون مع روسيا، على رأسهم مدير الحملة الانتخابية للرئيس السابق ترامب. بول مانافورت، نائبه ريك جيتس، ومستشار الحملة جورج بابادوبولوس. التهمة كانت التآمر على الولايات المتحدة الأمريكية، أتتذكر إسم هذه القضية في الإعلام؟ نعم، Russiagate.
ثمة هاكر مزعج، لكنه قادر على إرباك الحسابات وإثارة القلق. فهل يعني ذلك أن هذا الهاكر قادر على التسبب في هزيمة سياسية بحجم هيلاري كلينتون في سباق الرئاسة في مواجهة مرشح من خارج الصندوق اسمه ترمب؟ أليس هذا ما زعمه ديمقراطيو أمريكا؟
بالمناسبة، هذه البراعة الروسية في “التهكير” وقلب الحقائق، بدت مقلوبة في ظل ما نشهده من حرب إعلامية هدّمت كل الأسوار الروسية.
إن لم يعجبك رأيي في نجاح بوتين في إثارة الارتباك داخل دوائر عليا أمريكية، حسناً، سأدع أوباما يخبرك بنفسه. فحين سئل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما خلال لقائه مع جورج ستيفانوبولوس على قناة ABC News، بعد خسارة حزبه في الانتخابات الرئاسية لصالح دونالد ترامب، إذا ما كان قد قلّل من شأن بوتين، فقال: “إذا لم ننتبه، يمكن لدول أجنبية أن يكون لها تأثير على جدلنا السياسي في الولايات المتحدة. الكثيرون يُشكّكون في مؤسسات التيار الرئيسي الإعلامية لدينا. كل شيء حقيقي وكل شيء مزيف في ذات الوقت. لا تعلم شيئاً، لا شيء محسوماً، كل شيء معرض للدحض، خلاصة القول هي أن فلاديمير بوتين حصل على ما أراد”.
كان السبب في توجيه مثل هذا السؤال لأوباما هو إحساس البعض بالسذاجة والندم على التفاهمات التي تمت مع روسيا في عهد رئاسته لأمريكا. فقد نجح بوتين (من خلف ميدفيديف) عام 2009 في الحصول على تنازلات أمريكية مع عودة أوباما عن قرار نصب القواعد الصاروخية ومحطات الرادار في كل من تشيكيا وبولندا. مع العلم أيضاً أن آندري نيسترينكو، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الروسية، عبر حينها عن إرتياح بلاده قائلاً إن هذا القرار الجيد من قبل الولايات المتحدة، ليس مبنياً على اتفاق تلتزم بمقتضاه روسيا بأي شيء في المقابل!
وبعد ذلك بسنتين، وقعت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية في 2011، معاهدة ستارت الجديدة New START Treaty للحد من التسلح النووي في العاصمة التشيكية براغ، والتي تم توقيع التمديد الثالث لها السنة الفائتة، لتستمر حتى عام 2026.
ألا يعرف الجميع الدور الذي قامت به روسيا في مجريات الحرب الأهلية السورية. أنحتاج للتذكير بأن روسيا قامت بتكوين اتفاقية CSTO للدفاع المشترك مع دول آسيا الوسطى، وهل لم نسمع باستدعاء الرئيس الكازاخستاني قاسم-جومارت توكاييف لقوات هذا التحالف بقيادة روسيا، لكي تنقذه من فورة شعبية قال هو بأنها اضطرابات تقودها ضده جماعات إرهابية مدعومة من الخارج؟
أما رأى أحدٌ منا أي وجاهة في تحالف كتلة البريكس BRICS، أي Brazil, Russia, India, China & South ،Africa والذي تمثل روسيا عضواً مؤسساً به، وهو يناوش بمؤتمرات جدية، تطرح فكرة البعد عن تسلط الدولار وتعليمات صندوق النقد وشروط البنك الدولي، بل ووضع خطط مستقبلية لصنع شبكات اتصالات وكابلات إنترنت مستقلة عن تحكم الشركات الكبرى الأمريكية والأوروبية.
أجبرت حرب أوكرانيا أمريكا على عملية فرز وجرد علنية أمام أعين الناظرين والمحللين، وليقس الجميع مدى قدرة القطب الأوحد على جذب الكل إلى موقفه. ولا أعتقد أن عاقلا سيقرر ألا يرى انخفاضاً في درجة “مغنطة” هذا القطب الآن
يمكننا الاستمرار في عرض نماذج نجح بوتين فيها، بداية من زرع بذرة القلق، إلى التأثير السياسي خارج حدود دولته، وصولاً إلى تحريك قوات عسكرية تخطت الباحة الخلفية لروسيا ووصلت إلى أفريقيا الوسطى. لذا وجب القول هنا، بأن مجرد طرح واقع عالمي بديل “Novus Ordo Seclorum” كفكرة هو نجاح في حد ذاته. فما بالك بفرض أمر واقع جديد تدريجياً بالفعل.
لنحاول عزيزي القارىء تلخيص الطريقة التي يتبعها بوتين:
- اتخاذ قرار حاسم (عسكري حين الحاجة) لقلب الطاولة.
- تصدير المشكلة إلى مستوى تصعيد عالمي.
- التلويح بهز الستاتيس كو لإثارة قلق النظام العالمي.
- ممارسة دبلوماسية دولية من موقع تكافؤ القوى.
- التوصل لاتفاق مع حفظ المكتسبات والحصول على ضمانات.
ماذا حققت هذه الآلية لبوتين في أوكرانيا حتى الآن وهي لم تبلغ الخطوة الأخيرة بعد:
- أجبر من يواجهه على احتجاز نفسه في خانة رد الفعل والعقوبات، بينما نفذّت قواته مرادها. دخلت أوكرانيا في كل النقاط التي أرادت، برغم المقاومة الأوكرانية اليائسة أو كما يدعوها البعض “الصمود البطولي”، ولم لا. لكنه نضال في سبيل قضية مضمونة الخسارة في مآل الأمور.
- دفع بالحوار إلى مستوى دولي غير مسبوق، في استعادة لسجالات الحرب الباردة، لم يعد الطرف الآخر فيها، وهو الولايات المتحدة، يستطيع المزايدة، من دون أن يجد من يشير إلى يديه الملوثتين بكل فصائل الدماء التي تجري في عروق مختلف الأعراق.
- وضع على لسان المحللين من مختلف الجنسيات نقاشات لم يكونوا يذكرونها من قبل، عن اتجاهات سياسية أوروبية شعبوية، يمينية، عنصرية، متطرفة ونازية في الداخل الأوكراني وخارجه. وأوجد عبر ما أسماه الكثيرين بالتهور، مجالاً كاشفاً لحالة المواجهة الروسية-الأمريكية وبينهما بيادق، أحدها هو أوكرانيا.
- جعل خصومه في موقع غير القادر على المواجهة المباشرة مع روسيا. الأسباب متعددة، كاعتمادية دول كثيرة على روسيا في استيراد سلع رئيسية على رأسها النفط، الغاز والقمح (ألمانيا هنا تمثل حالة تستحق الاهتمام). وكذك إلتفتوا إلى خطورة المواجهة مع دولة نووية كروسيا. ناهيك عن مشروعية القلق الروسي في ظل قرار أمريكا بالمضي بخطة توسع منظمة (الناتو) التي عفا عليها الزمن.
- وضع أمريكا في اختبار الولاءات بتصديره المشكلة إلى مستوى تصعيد عالِ. فترى ماذا اكتشفت أمريكا، هل “كل حلفائك باعوك يا ريتشارد”؟ أم “سووا الصفوف”؟. لا هذه ولا تلك، فقط أجبرت أمريكا على عملية فرز وجرد علنية أمام أعين الناظرين والمحللين، وليقس الجميع مدى قدرة القطب الأوحد على جذب الكل إلى موقفه. ولا أعتقد أن عاقلا سيقرر ألا يرى انخفاضاً في درجة “مغنطة” هذا القطب الآن. “لاحظ كيف يستمر (المجتمع الدولي) في الانكماش” كما كتب الصحافي بيبي إسكوبار في مقالة لموقع ذا كريدل The Cradle بتاريخ 8 آذار/ مارس 2022.
كل ذلك وغيره من مكتسبات، مع الاستمرار في سياسات استراتيجية تسعى لفرض أمر واقع جديد، وتدفع نحو خلق نظام عالمي قائم على تعددية الأقطاب، بأدوار واحترام أكبر لكل من روسيا والصين على وجه التحديد، ولو ببطء.
عندما استلم بوتين قيادة روسيا لتوه عام 2000، وقف أمام مكتبه في الكرملين الذي كانت ما تزال بعض أغراض يلتسن موجودة فوق سطح مكتبه، قائلاً بنبرة خجولة:
“ثمة منافسة شرسة قائمة، ليس فقط في السوق، بل أيضاً بين الحكومات على الساحة الدولية، وأنا آسف جداً للقول إن هذا الأمر مقلق جداً، لأننا لسنا ضمن صفوف القيادة في هذا السباق..”.
حتى لو خسر بوتين في نظر الكثيرين في نهاية هذه الجولة من المواجهة، لن يستطيع أحد إنكار أن النظام العالمي الذي بني وترسخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جرت زعزعته باستمرار واضطراد
إلى بوتين 2017، في لقاءات مطولة بعنوان The Putin Interviews، أدارها معه المخرج والمنتج الأمريكي أوليفر ستون. وهو يريه صورة وضعها في غرفة ملحقة بمكتبه بالكرملين، قائلاً بذكاء روسي وانجليزية سليمة:
“هذا والدي، في سيفاستوبول، القرم. لقد كان في قوات البحرية هناك”.
فيجيبه ستون قائلاً: “في سيفاستوبول؟ ألهذا السبب حاربت من أجلها إذن”.
إلى بوتين نسخة 2022 الذي يعلن الحرب على أوكرانيا، قائلاً بنبرة القوة: “حينما يتصاعد مستوى التهديدات لبلدنا بشكل ملحوظ، فلروسيا كل الحق في اتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان أمنها، وهذا هو بالضبط ما سنفعله”.
لو سأل الأوكرانيون أنفسهم، أين هي الديمقراطية في مسعى بعض ساساتهم المنتخبين، الذي ينتهك احترام النقطة السابعة بالفقرة الـ 17 من الدستور الأوكراني، الذي تبناه المجلس التشريعي بتاريخ 28 حزيران/ يونيو 1996، والتي تقول بوضوح:
.“The location of foreign military bases shall not be permitted on the territory of Ukraine”
“تواجد قواعد عسكرية أجنبية لن يُسمح به على أرض أوكرانيا”.
أطرح رؤية مفادها أنه حتى لو خسر بوتين في نظر الكثيرين في نهاية هذه الجولة من المواجهة، لن يستطيع أحد إنكار أن النظام العالمي الذي بني وترسخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جرت زعزعته باستمرار واضطراد. ولينشغل إذن جميع محللي الأرض في مناقشة الموداس أوبيراندي Modus Operandi التي يتبعها بوتين. بينما ينجح هو من خلالها في تغيير الستاتيس كو Status Quo المرة بعد الأخرى.
نصيحة أخيرة، لا تنشغلوا بروسيا فقط، وتنسوا الصين!
تحياتي.
До свидания