أعادت الحرب الأوكرانية مناخات الحرب الباردة؛ هذه الحرب التي امتدت لعقود عديدة 1945-1991 بين حلفاء الضرورة في الحرب العالمية الثانية، أي الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وعكست بمجرياتها طموح أميركا إلى قيادة العالم وتطويعه، وفق تعبير دين أتشيسون الذي رأى أنّ الأميركيين قادرون على السيطرة على التاريخ وتطويعه بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945، كما عكست هواجس موسكو في ضبط حدودها المترامية الأطراف واعتماد سياسة الهجوم للدفاع عن أراضيها والتي عبّر عنها ستالين في خطابه أمام خريجي الأكاديميات العسكرية في أيار/مايو 1941 بقوله “سياستنا للسلام والأمن هي في نفس الوقت سياسة الاستعداد للحرب. لا يوجد دفاع بدون هجوم. يجب توعية الجيش بروح الهجوم. يجب ان نستعد للحرب”. المعادلة نفسها قائمة منذ القرن الثامن عشر (1793)، عندما كانت كاترين الكبرى تبرق لسفيرها في بولندا قائلة إن روسيا (القيصرية) لن تحظى بحدود آمنة مع بولندا إلا إذا كانت الأخيرة في حالة ضعف وعجز كبيرين.
ومن يُراجع خطاب ونستون تشرشل الشهير “فولتون” “The Sinews of Peace” في الخامس من آذار/مارس 1946 في الولايات المتحدة بوصفه زعيماً للمعارضة البريطانية (*) يستطيع أن يستقرىء الواقع الجديد في أوروبا والعالم غداة الحرب العالمية الثانية وانقسامه إلى محورين: محور الحرية ومحور الاستبداد، مُحذرا من استحواذ موسكو على “عواصم دول أوروبا الوسطى والشرقية”، داعياً إلى قيام تحالف أخوي بين دول الكومنولث والولايات المتحدة لمقاومة التوسع السوفياتي. خطاب يُذكرنا بمفردات الخطاب الرئاسي الأميركي اليوم بالتشديد على أن المعركة أيضاً بين محورين: خير وشر. حرية وإستبداد.. وصولاً إلى دعوة أوروبا وكل دول ما يسمى “العالم الحر” إلى وضع يدها بيد الولايات المتحدة “لمقاومة التوسع الروسي”.
إنها “عقيدة ترومان”. فالرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان كان قد أعلن للمرة الأولى من أمام الكونغرس في آذار/مارس 1947، عن عقيدة جديدة شكلت عماد السياسة الخارجية الأميركية في الحقبة الممتدة من نهاية الحرب الثانية وحتى إنهيار الإتحاد السوفياتي قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن.. “عقيدة ترومان” هدفها مواجهة التوسع الجيوسياسي السوفياتي خلال الحرب الباردة، وتطورت في السعي الأميركي لمواجهة المد الشيوعي باتجاه اليونان وتركيا وتقديم كافة أشكال الدعم المالي (تموز/يوليو 1948) لدعم اقتصادات تلك الدول، وتُوّجت بتشكيل حلف شمال الأطلسي عام 1949.
تتصرف الولايات المتحدة مع “معركة اوكرانيا” باعتبارها “أمّ الصبي”، يطير الرئيس الأميركي “الكهل” من واشنطن إلى بروكسيل فيعقد ثلاث قِمم (مجموعة 7 والاتحاد الأوروبي والناتو). تُفتح لفولوديمير زيلينسكي برلمانات العالم المتمدن، لكي يُحاضر في العفة ويُؤنّب المقصرين ويؤكد لغريمه “بوتين” بأنه لا يعضّ
في المقابل، كان سعي جوزف ستالين والقادة السوفيات يُركز على حماية أراضي الإتحاد السوفياتي المترامية الأطراف، نتيجة مخاوف متأصلة سببتها مجريات الحرب العالمية الثانية، فقد “احتل الألمان تسعًا من الجمهوريات الخمس عشرة التي تؤلف الاتحاد السوفياتي سواء بشكل كلي أو جزئي. ندر وجود مواطن سوفياتي لم تمسه الحرب على نحو شخصي.. فقدت كل أسرة تقريبًا أحد أفرادها، وكثير من الأسر فقد أكثر من فرد. وبالإضافة إلى ملايين الأرواح التي أزهقت بفعل الصراع، دُمرت 1700 مدينة وبلدة وأكثر من 70 ألف قرية وضيعة، و31 ألف مصنع، وكانت حصيلة قتلى الحرب هي الأعلى في الاتحاد السوفياتي إذ قدرت بنحو 25 مليون قتيل.
هذا يفسّر حرص الزعماء السوفيات على إبقاء عيونهم مفتوحة على الجبهة الغربية. التوسع خارج الحدود التاريخية لحماية الأراضي السوفياتية من أي هجوم جديد، أصبح ركيزة استراتيجيتهم الدفاعية وسياستهم الخارجية، لذا كان لبولندا والجبهة الغربية حساسية خاصة في الحسابات التكتية الروسية، فهي طريق الجيوش التي تعاقبت على غزو الاتحاد السوفياتي عبر التاريخ و”البوابة” التي يتسلل منها أعداء روسيا، الأمر الذي جعل السيطرة عليها مسألة حياة أو موت قبل ستالين وبعده. وفي هذا السياق، تؤكد إفادة وزير خارجية ألمانيا الهتلرية (ي. ف. ريبنتروب) (1893 -1946) التي قدمها أثناء محاكمات نورمبرغ عام 1946 أهمية البوابة البولندية بالنسبة لسياسة الدفاع الروسية، والتي أكد فيها حرص القادة السوفيات وعلى رأسهم ستالين على ضمان حدودهم الشرقية قبل توقيع المعاهدة الألمانية ـ الروسية في أب/أغسطس 1939. يقول ريبنتروب:”عندما جئت إلى موسكو عام 1939 لرؤية المارشال ستالين، لم يناقش معي إمكانية التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع الألماني- البولندي في إطار اتفاق برياند- كيلوج، لكنه أوضح لي بأنه إن لم أكن مستعدا لقبول حصول الاتحاد السوفياتي على نصف بولندا ودول البلطيق بدون ليتوانيا مع ميناء ليبافا يمكنني العودة على الفور..”
أربعة عقود ونيف كانت كافية لتضع حدا لتلك الحرب، أخفق فيها سادة الكرملين في الحفاظ على مكتسبات “الحرب القومية العظمى”، بعد فصول من المعارك المتنقلة والتوترات الكبرى على أكثر من ساحة دولية، بينما نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في دفع الاتحاد السوفياتي إلى انهيار محبوك في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، فكانت أيضاً نهاية واحدة من أشدّ الحروب الناعمة قسوة وتأثيراً، وتركت خدوشاً عميقة في عنفوان المؤمنين بالتعددية القطبية والمجد الأوراسي والتي شكلت موسكو عنفوانها التاريخي؛ موسكو هذه، صَرَعَتْ جيوش نابوليون بونابرت بعد أن تفوق على غالبية بلدان أوروبا، ولفظتْ عائلة رومانوف بعد قرون من الحُكم القيصري، لتحمل لينين وحزب “البروليتاريا” إلى سدة الحكم والأممية الثالثة، وليشكل ستالين آخر فصولها الحمراء ويكتب بدهائه ودمويته نهاية المجد النازي الذي تكسرت جحافله على أعتاب روسيا السوفياتية.
هكذا يحفر التاريخ وعيه على جبين الأمم، قِلّةٌ منها تَمْسَحهُ بلا خَجَلٍ وكأنَّه حملٌ من “دَنَسْ” وكثرةٌ تجعلُ منه مَلقى النسور ونبراسها الأعلى، عصياً على الكيّ والتزوير.. الوعي لا تمحوه الهزائم بل يُبدّده اليأس والخنوع الرخيص، يمحوه وعي معاكس في لحظة ضعف تاريخية.. فالأمم والحضارات قد تتعرض للسقوط والهزيمة عندما لا تستجيب للتحديات بطريقة ناجحة وتفتقر إلى “المحاكاة الٱلية” بين القادة والجموع، وتستحيل النخب الحاكمة “كومة خردة” وخطابها مجرد “مزبلة كلمات”.
تنصل الأميركيون من إلتزاماتهم التي قطعوها لميخائيل غورباتشوف قبل ثلاثة عقود. لن يتراجع بوتين إلا بعد أن ينال مبتغاه. إنها عملية عضّ أصابع قد تطول والبقاء لمن يحتمل “الآخ” أكثر من غيره
تتصرف الولايات المتحدة مع “معركة اوكرانيا” باعتبارها “أمّ الصبي”، يطير الرئيس الأميركي “الكهل” من واشنطن إلى بروكسيل فيعقد ثلاث قِمم (مجموعة 7 والاتحاد الأوروبي والناتو). تُفتح لفولوديمير زيلينسكي برلمانات العالم المتمدن، لكي يُحاضر في العفة ويُؤنّب المقصرين ويؤكد لغريمه “بوتين” بأنه لا يعضّ.. وفي الوقت نفسه، ها هو الشعب الأوكراني يدفع الفاتورة عن الجميع، يقاتل ما أمكنه إلى ذلك سبيلا، يكسب بالنقاط احتراما وهيبة، يهيم على وجهه في بلاد اللجوء، ويدفع ثمن رقص زعمائه مع الذئاب. زعماء لم يقرأوا التاريخ أبداً ولا اتعظوا من أحداثه وخانتهم الثقة التي ألقوها دفعة واحدة في الجيب الأميركي المثقوب.
في الوقت نفسه، تمارس بريطانيا خبثها الدفين ورغبتها غير المنقطعة في ضرب روسيا وبوريس جونسون يزايد ويصعّد و”شولتز” و”ماكرون” يبلعان ريقهما. الحكومات الأوروبية تهرول وراء الجنون الأميركي – البريطاني، وسط دعاية مركزة تصوّر سيد الكرملين مجرم حرب وسفاح، بينما تمنح الصورة زيلينسكي بعدا دراميا كمسيح يفدي أوروبا بنفسه وشعبه وأرضه ممثلاً قيم الحرية الغربية. قدرة شعوب أوروبا على التحمل بعد عقود من السلم والرفاهية باتت محدودة. قادتها مرغمون على تلقف كرة النار الأميركية عبر الملعب الأوكراني، بالمزيد من الاستنزاف لموارد القارة العجوز والهدف هو الصين عبر حديقتها الخلفية روسيا.
إن قراءة التاريخ تجعلنا نستنتج أن فلاديمير بوتين لا يملك ترف الهزيمة. هو محكوم فقط بأن ينتصر. لن يسمح لحلف الناتو بأن يزحف إلى فضائه الإستراتيجي. تنصل الأميركيون من إلتزاماتهم التي قطعوها لميخائيل غورباتشوف قبل ثلاثة عقود. لن يتراجع بوتين إلا بعد أن ينال مبتغاه. إنها عملية عضّ أصابع قد تطول والبقاء لمن يحتمل “الآخ” أكثر من غيره.