عندما يُقرر السعودي العودة إلى لبنان إنما يعترف ضمناً أن قرار الإنسحاب وسحب السفراء بدا كمن يُطلق النار على قدميه. لم يتغير شيء في لبنان حتى الآن، ولو أرادوا محاكمة وزير الإعلام الجديد زياد مكاري على تغريداته ـ ما قبل توزيره ـ لأمكن القول “يا محلا جورج قرداحي”. نعم، قرر سعد الحريري تعليق عمله السياسي وترك تياره السياسي “مُعلقاً” وبلا مظلة سياسية. أما في الإقليم، فقد سبقت عودة السعودية الى لبنان هدنة هشة في اليمن ترافقت مع إحالة عبد ربه منصور هادي إلى التقاعد السياسي المبكر وإحالة “صلاحياته الرئاسية” إلى مجلس رئاسي إنتقالي؛ إنسداد سياسي في العراق؛ مراوحة في الملف النووي؛ إحتدام في مشهد الداخل الفلسطيني و”ستاتيكو” في المشهد السوري.
ربما صار حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصرالله أكثر تدقيقاً في العبارات المنتقاة في مخاطبة قادة السعودية، لكن النبرة الهجومية لم تتراجع بدليل الخطاب الأخير وما يمكن أن يتضمنه خطاب “يوم القدس العالمي”، في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، برغم تمحوره عادة حول القضية الفلسطينية، حتى أن الإجتماع الأخير الذي جمع نصرالله بكل من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لم يكن ملف التعامل السعودي مع لبنان واليمن والعراق إلا في صلب معظم مناقشاته.
حتى الآن، يمكن الجزم أن لا سياسة سعودية في لبنان. هناك سياسة فرنسية وجاء الدور السعودي في سياقها. مسار تم التأسيس له منذ سنوات لكن تم تدشينه منذ الأسابيع الأولى لوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض: حاجة السعودي إلى الفرنسي دولياً (بديل مؤقت) في إنتظار إما إعادة إنتظام العلاقات السعودية الأميركية في المدى القريب أو إنتهاء ولاية بايدن على المدى الأبعد (2025). بالمقابل، يحتاج الفرنسي إلى السعودي لا سيما في صفقات التسليح والتجسير في أكثر من دولة عربية وصولاً إلى إقامة ما يشبه “الحلف الإقتصادي الإقليمي” (يفوز الفرنسي بمناقصات عديدة في لبنان (مرفأ بيروت وعينه على قطاعي الكهرباء والإتصالات) والعراق (صفقة توتال بقيمة 27 مليار دولار) ومشاريع بمئات المليارات في كل من الإمارات والسعودية ومشاريع في الأردن قريباً)، حتى أن وزير الأشغال اللبناني علي حمية لم يستبعد في جلسة مع عدد من الإعلاميين اللبنانيين غداة عودته من فرنسا مؤخراً تطبيعاً فرنسياً ـ سورياً في الأشهر القليلة المقبلة، في الخانة نفسها.
يستدرجنا ذلك للقول إن السعودية لم تغيّر سياستها في لبنان طالما “لا سياسة سعودية في لبنان”!
يمكن القول إن فرنسا تتجه إلى رسم سياسة شرق أوسطية ولبنانية تتسم بالإندفاع والهجومية (الإيجابية) وستطل تباشيرها الأولى من لبنان، فور إنتهاء الإنتخابات النيابية في 15 أيار/مايو المقبل وستكون باكورتها السعي إلى إعادة تعويم حكومة نجيب ميقاتي الحالية، بإعادة تسميته رئيساً للحكومة فوراً
دليلنا إلى ذلك البيان الفرنسي السعودي الذي صدر في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2021 تتويجاً لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرياض. هذا البيان تضمن حيزاً خاصاً بلبنان، وجاء الإتصال الثلاثي بين ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي في سياقه. ومن المفيد التذكير بالبيان: دعوة الحكومة اللبنانية للقيام بإجراء إصلاحات شاملة لا سيما الإلتزام بإتفاق الطائف (فقرة حمّالة وجوه)؛ حصرية السلاح بيد الدولة؛ عدم تحول لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن وإستقرار المنطقة؛ تعزيز دور الجيش اللبناني؛ إنشاء آلية سعودية فرنسية لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني؛ الحفاظ على إستقرار لبنان وإحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع القرارات الدولية 1559 و1701 و1680.
منذ صدور هذا البيان، تكثفت المشاورات السعودية ـ الفرنسية بين الرياض وباريس وتم تثبيت آلية للتشاور تشمل سفيري فرنسا في لبنان آن غريو والسعودية وليد البخاري. المؤسف كتابته هو أن إدارة الملف اللبناني فرنسية بإمتياز وللبخاري أن يُراجع سفيرة فرنسا وأن “يلتزم” بتعليماتها بدليل اللوم الفرنسي على بيانات ومواقف إنتخابية صدرت من حرم منزل البخاري في اليرزة، الأمر الذي إستدعى توجيه لوم سعودي إلى الرئيس فؤاد السنيورة “لأنه كان الأكثر فجاجة في إحراج البخاري والسعوديين” على حد قول أحد العارفين!
كيف سيترجم السعوديون والفرنسيون البيان المشترك؟
أولاً، بعودة البخاري وثانياً، الدفع بإتجاه أوسع مشاركة في الإنتخابات النيابية لإستدراك ما يمكن إستدراكه في ضوء “الفاول السياسي” الذي إرتكبه سعد الحريري بتجميد حضوره وتياره في المشهد السياسي الإنتخابي.. وثالثاً، بوضع صندوق المساعدات الإنسانية موضع التنفيذ حيث رصد الجانبان 72 مليون يورو ستخصص لست قطاعات محددة المعالم في لبنان (مدارس ومستشفيات وجامعات ومؤسسات إجتماعية ومساعدات غذائية)، فتكون حصة كل دولة 36 مليون يورو، أي أقل من 50 مليون دولار، على أن تشمل كثيرين من مؤسسات الإمام الصدر جنوباً إلى مستشفيات عكار شمالاً مروراً بالمقاصد في بيروت وكل لبنان والعديد من المؤسسات الكاثوليكية التي تساعدها فرنسا بالأساس (280 مدرسة شملتها المساعدات الفرنسية منذ إنفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 إلى يومنا هذا).
لا سقف زمنياً لصندوق المساعدات الإنسانية، لكن ماذا عن باقي الخطوات السعودية الفرنسية ربطاً بالبيان المشترك؟
حالياً، يُراهن السعوديون، كما إدارة بايدن ومعظم أوروبا، على فوز ماكرون بولاية رئاسية ثانية تُعيده إلى الإليزيه لخمس سنوات جديدة. هذا الأمر ستتضح معالمه مع صدور النتائج النهائية مساء يوم الأحد المقبل وستظهر مؤشراته الأولية فور إنتهاء المناظرة التلفزيونية بين ماكرون ومنافسته اليمينية مارين لوبن مساء يوم الأربعاء المقبل.. وبدء فترة الصمت الإنتخابي.
صار فوز ماكرون حاجة دولية، ومعظم المؤشرات ترجح فوزه، لكن ماذا عن اليوم التالي؟
أولاً؛ كعادة كل إدارة فرنسية، ستكون هناك حكومة فرنسية جديدة وحتماً سيشمل التغيير منصب وزير الخارجية والعديد من المواقع في الإليزيه والـ”كي دورسيه” والإدارة وبينها مدير وكالة الإستخبارات الخارجية الفرنسية (يحتله حالياً السفير برنار إيمييه) وذلك لمصلحة الإتيان بضابط لهذا المنصب، كما كان الحال في زمن الحرب الباردة التي يتصرف العالم على أساس أنها صارت أمراً واقعاً.
ثانياً؛ يتحرر كل رئيس لفرنسا في ولايته الثانية والأخيرة من المحاذير الإنتخابية التي تقيّد ولايته الأولى، ولذلك يمكن القول إن فرنسا تتجه إلى رسم سياسة شرق أوسطية ولبنانية تتسم بالإندفاع والهجومية (الإيجابية) وستطل تباشيرها الأولى من لبنان، فور إنتهاء الإنتخابات النيابية في 15 أيار/مايو المقبل وستكون باكورتها السعي إلى إعادة تعويم حكومة نجيب ميقاتي الحالية، بإعادة تسميته رئيساً للحكومة فوراً وإعادة تعويم وزارته الحالية بإستثناء ثلاثة أو أربعة وزراء سيتم إستبدالهم، وبعضهم صار يعرف ذلك.
ووفق التقديرات الفرنسية، “يؤمل أن تنجز هذه المهمة قبل وصول الحبر الأعظم البابا فرنسيس إلى لبنان في الثاني عشر من حزيران/يونيو المقبل، على أن تشكل الرعاية الروحية البابوية والسياسية الفرنسية للبنان، مناسبة لوضع ورقة عمل فرنسية (تتبناها السعودية لاحقاً) تقارب “أبرز الثغرات الدستورية” التي تواجه الصيغة اللبنانية (أي أقل من طائف وأكثر من دوحة)، فإذا نجح الفرنسيون في تسويقها، تشكل جزءاً من خارطة طريق لعبور الإنتخابات الرئاسية اللبنانية في موعدها، وإذا تعذر ذلك، يُصار إلى تعديل خارطة الطريق لتتلاءم وموجبات الفراغ الرئاسي الذي يُتوقع أن يُصبح الأكثر ترجيحاً بعد إنتهاء ولاية ميشال عون”.
ثالثاً؛ لا ينفي ذلك أن ثمة أولوية فرنسية ـ سعودية لا بل دولية تركز على أولوية معالجة قضية سلاح حزب الله. الفارق بين الفرنسيين وباقي حلفائهم من عرب وغربيين أنهم يتعاملون بواقعية. يقول الفرنسيون إن اي حل لقضية السلاح مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالملف النووي، “فإذا تم التوصل إلى إتفاق نووي، يُمكن الخوض في هذا الملف بالتفاهم مع طهران وإذا تعذر الإتفاق تقتضي الواقعية السياسية إدارة المرحلة الإنتقالية أيضاً بالتفاهم مع حزب الله والإيرانيين”، على حد تعبير أحد المتابعين، مع إشارة لافتة للإنتباه إزاء إزدياد حاجة الإيرانيين للنافذة الفرنسية غربياً في حال عدم التوصل إلى إتفاق.. والعكس صحيح!
تمنى الفرنسيون على الإيرانيين تذليل العقبات التي تحول دون إستبدال حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة بحاكم جديد”، وكان رد الإيرانيين أن هذا الأمر بعهدة الأمين العام لحزب الله، مع إشارة إيرانية إلى عدم وجود محاذير تحول دون تنحية سلامة
وللتدليل على التواصل الفرنسي الإيراني، يشير أحد العارفين إلى أن باريس تكاد لا تهمل شاردة أو واردة لبنانية إلا وتتشاور بشأنها مع طهران “ففي آخر تواصل دبلوماسي بين العاصمتين، تمنى الفرنسيون على الإيرانيين تذليل العقبات التي تحول دون إستبدال حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة بحاكم جديد”، وكان رد الإيرانيين أن هذا الأمر بعهدة الأمين العام لحزب الله، مع إشارة إيرانية إلى عدم وجود محاذير تحول دون تنحية سلامة. الأمر نفسه يسري على الأميركيين الذين فوّضوا الفرنسيين إدارة الملف اللبناني. قال الفرنسيون لمن راجعهم لبنانياً إن واشنطن لا تضع أي خط أحمر والمهم بالنسبة إليها من سيكون بديل رياض سلامة الذي يلبي مصالحها أولاً.
هذه القنوات المفتوحة بين الفرنسيين والإيرانيين تنسحب على ملفات أخرى. غير أن المعضلة في حالة عدم الإتفاق النووي أن الكثير من أمور المنطقة ستزداد تعقيداً ولا سيما بين السعودية وإيران.. ولذلك ترجماته في العديد من الساحات وأبرزها اليمن والعراق ولبنان، تبعاً لقدرة طهران على التصديع والترميم في آن معاً.
هنا تنبري أسئلة كثيرة: هل عودة السعودية الإستباقية تأتي في سياقٍ محددٍ يمكن أن يفضي إلى إعادة تلزيم ملف لبنان إلى سوريا (عودة السين سين)؟ وهل يريد السعوديون للمشاركة السنية في الإنتخابات اللبنانية أن ترتفع من أجل إبراز هزالة دعوة الحريري إلى تعليق مشاركته في الحياة السياسية وهل تأخر السعوديون في الإستدراك أم أن الفرصة متاحة وهل تغيرت وجهة السعوديين في جعل سمير جعجع هو الممر الإلزامي لكل من يدق أبواب المملكة، سياسياً ومالياً. ألا يغامر جعجع بمستقبله عندما يضع كل أوراقه بعهدة السعوديين ويهمل حقيقة التباعد القائم بين واشنطن والرياض؟
هذه مجرد أسئلة ومقدمات للخوض أكثر في مرحلة ما بعد ما تسمى “عودة السعودية إلى لبنان” وكيف سيُترجم ذلك في الإنتخابات النيابية اللبنانية المقبلة.. للبحث صلة.
(*) غداً الجزء الثاني والأخير