حوار مع هيكل عشية مئويته.. “أنا يسار وسط”

بعد عام واحد بالضبط تهل مئوية الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى (23) سبتمبر/ايلول (2023).

بتعدد أدواره اكتسبت تجربته فرادتها.
بتعبير «سارميللا بوز» مديرة كلية الصحافة فى جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة، وهى تقدمه فى أكتوبر/تشرين الأول (2007) لإلقاء أول محاضرة تذكارية بالكلية الوليدة، فهو «أسطورة حية».
كادت ألا تصدق أنه أمامها الآن.
الاحتفاء بمئويته تكريس للمعنى والقيمة، أن الصحفى أبقى من السياسى والكلمة أقوى من السلطة، كما كان يعتقد دوما.
ظاهرته غير قابلة للتكرار، فهو ابن عصره ونتاج تحولاته ومعاركه.
لم يكن ممكنا كتابة التاريخ المعاصر والإلمام بأسراره وكواليسه دون إسهاماته فى النظر إلى الحوادث الكبرى، التى مرت على مصر وعالمها العربى، من عواصف وثورات وتحولات وحروب وانقلابات مضادة عاصرها ووثقها وكتب شهادته عنها.
الاحتفاء بمئويته هو احتفاء بالذاكرة الوطنية وضرورة إحيائها بالبحث والتوثيق والحوار الجدى فى مواطن القوة والضعف، أسباب الصعود والانكسار.
كان قريبا من مركز صنع القرار على عهدى «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات»، حتى عام (١٩٧٤) عندما افترقت الطرق، وذلك أتاح له أن ينظر من الداخل على حقائق القوة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه مؤرخا.
فوق ذلك فهو مفكر أمن قومى لا يضارعه فى عمق تأثيره على أجيال متعاقبة من العسكريين والدبلوماسيين أى أحد آخر.
بخط يده وصفه المفكر الجغرافى الدكتور «جمال حمدان» بـ«ابن مصر العظيم»، ربما لهذا السبب قبل أى شىء آخر.

هيكل: انتمائى العروبى هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران وصدمة النكبة… انظر حولك الآن، أين اليسار؟ هو غائب حيث يجب أن يحضر، المرحلة الحالية تقتضى وجود من يدافع عن العدالة الاجتماعية عن اعتقاد وإيمان

الاحتفاء بمئويته إعادة تأكيد على الحقائق الأساسية فى نظرية الأمن القومى، مفاهيمها وأسسها ومزالق تجريفها.
ارتبط بتجربة «جمال عبدالناصر» ودافع عنها حتى النهاية.
قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد استنكر بكل وجدانه ما بث على إحدى الفضائيات من أنه اخترع زعيم ثورة يوليو، ولم يأبه بكلام آخر على نفس الفضائية يستعجل رحيله هو.
قال: «جمال عبدالناصر؟!».
أردف استنكاره ببيت شعر، وهو رجل يحفظ الشعر ويستدعيه فى كل مقام: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».
لم تكن صورة «هيكل» من بعيد تضاهى حقيقته الإنسانية.
فى تسعينيات القرن الماضى رسمه الفنان «جورج بهجورى» كـ«آلة للتفكير بأسلاك متداخلة تنتج رؤى وسياسات».
الصورة ــ أحيانا ــ أقوى من الحقيقة بالاعتياد، أو بالتقادم، لكن حسه الإنسانى كان أكثر رهافة من صور أسلاك متداخلة لعقل يفكر طوال الوقت دون توقف أو راحة.
سألته عن رأيه في ما رسمه «بهجورى»؟
قال: «عقل إيه، ومبرمج إيه، ده نصف الذى أكتبه أدب».

هذه حقيقة، فبعض كتاباته ــ بشهادة روائيين كبار أهمهم «نجيب محفوظ» ــ ترتقى بصورها الدرامية والإنسانية إلى مصاف الأعمال الروائية الرفيعة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه روائيا ولا كانت كتابة الرواية من أحلام الشباب التى راودته.
ما إن بدأت علاقته تتوطد مع «جمال عبدالناصر» حتى فرض على نفسه، وعلى حياته العامة والخاصة ستارا كثيفا من الصمت والكتمان.
قال لى: «ما كان يجرى بينى وبين الرئيس ملكه وحده، وما يصل إليه من قرارات بعد حوارات معى ومع غيرى، ملكه وحده، يعلنها فى الوقت الذى يشاء وبالطريقة التى يراها مناسبة، لا أنقل عنه ولا أسمح لأحد بأن ينقل عنى».
سألته: «ما تفسيرك أن بعض الذين عاصروا حقبة الستينيات قالوا لى إن ما أنشره عنك من قصص سياسية وإنسانية تختلف مع صورتك التى يعرفونها؟».
قال: «عندهم حق.. فقد كنت أعمل وأحيا من خلف ستائر كثيفة».
كان من رأيه أن «جمال عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية فى التاريخ المصرى الحديث».
لم يكن معنيا بالتصنيف الأيديولوجى بقدر ما كان متنبها إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئا له قيمة أو فكرة لها أثر.
قال له الدكتور «عبدالوهاب المسيرى»: «لست ناصريا».
أجابه: «ليس مهما».
الواقعة جرت فى أواخر ستينيات القرن الماضى عندما عرض وزير الإعلام «محمد حسنين هيكل» على الباحث الشاب الانضمام إلى دائرته الاستشارية.
حسب رواية أخرى لـ«المسيرى» فإنه سأله عن سر علاقته بـ«عبدالناصر» فــ«إذا به يتحول من كاتب صحفى إلى شاعر غنائى، كيف أن عبدالناصر بالنسبة لمصر هو المستقبل، وهو التنمية المستقلة، وكيف أن العروبة من الممكن أن تعطى لهذه المنطقة هوية حضارية وثقلا استراتيجيا يجعلها تواجه عالم التكتلات الكبرى».
لم يمنع انحيازه للمشروع من انتقاداته للنظام.
الأول، يمتد بالتجديد فى الزمن.. والثانى، تنقضى صلاحياته باختلاف زمنه.

هيكل: كيف أكون يمينيا وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان ٣٠ مارس/آذار والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التى أعلن فيها عبدالناصر التأميمات

سألته: «كيف تصنف نفسك فكريا وسياسيا؟».
أجاب: «يسار وسط».
قلت: «لماذا يعتقد بعض معاصريك أنك أقرب إلى اليمين؟».
قال: «كانوا يظنون أن تجربتى فى أخبار اليوم أثرت على تكوينى الفكرى والسياسى».
«كيف أكون يمينيا وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان ٣٠ مارس/آذار والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التى أعلن فيها عبدالناصر التأميمات».
«أنت تعرف أننى لا أكتب شيئا لا أقتنع به».
«ثم لا تنس أننى أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة لإدانة أسلوب فى الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها».
«ثم إن انتمائى العروبى هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران وصدمة النكبة».
«انظر حولك الآن، أين اليسار؟ هو غائب حيث يجب أن يحضر، المرحلة الحالية تقتضى وجود من يدافع عن العدالة الاجتماعية عن اعتقاد وإيمان».
كان رجل مستقبل لا يشغله الماضى إلا بقدر التعلم منه وعدم تكرار أية أخطاء حدثت.
هكذا فإن الاحتفاء بمئويته بعد عام من الآن لا بد أن يذهب مباشرة إلى المستقبل، نراجع الماضى ونتعلم من دروسه، لكننا لا نتوقف عنده.
بحسب تعبيره: «التاريخ هو أفضل معلم للسياسة».

إقرأ على موقع 180  بلادنا المُستباحة

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  نتنياهو يقفز فوق حقائق غزة.. هل يذهب للحرب مع لبنان؟