ما معنى أن يتخلى الخليج العربي الغني عن مصر؟

في إحدى إطلالاته التلفزيونية الأخيرة، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن الخليجيين "تغيروا" ولن يقدموا لنا مساعدات من دون مقابل بعد الآن، وذلك في معرض تأكيده أن دول الخليج في زمن الأبناء حالياً ليست كما كانت عليه في زمن الآباء سابقاً. 

ها هي دول الخليج العربي الغنية مالاً ونفطاً، تترك مصر أسيرة إقتصاد يوشك على الانهيار، من دون أن تبادر لانقاذها من الازمة الاقتصادية الخانقة التي جعلت دولة الأكثر من مائة مليون نسمة ترضخ لشروط صندوق النقد الدولي، وأولها تحرير سعر الجنيه المصري، ما أدى إلى انخفاض سعره لما يزيد عن 25 بالمائة أمام الدولار في يوم واحد، وهذا الأمر إرتد بطبيعة الحال تراجعاً في القدرة الشرائية ويجعل مصر مرشحة لإحتمالات الإنفجار الإجتماعي في المرحلة المقبلة.

وبرغم الصرخة المدوية الممزوجة بالمرارة التي اطلقها الرئيس السيسي، الأربعاء الماضي، من أن دول الخليج “أوقفت جميع مساعداتها المجانية لمصر”، فإن أي دولة عربية خليجية لم تُحرّك ساكناً، الأمر الذي يطرح سؤال دول الخليج النفطية في عهود الأبناء، فيما كانت الصورة مختلفة في عهود الآباء، بدليل أنه كلما كانت ترتفع اسعار البترول كانت دول الخليج النفطية تبادر الى تقديم المساعدات المالية لشقيقاتها الدول العربية غير النفطية التي سيتضرر اقتصادها بسبب ارتفاع اسعار البترول، حتى أن الدول الخليجية (في عهد الآباء) كانت تبيع في احيان كثيرة بترولها لشقيقاتها الدول العربية غير النفطية بأسعار رمزية اقل بكثير من اسعار السوق العالمية.

واذكر جيداً هنا ما قاله لي الملك سلمان – حين كان اميراً للرياض في عهد الملك الراحل فهد – “نحن نقدم مساعدات مالية لأشقائنا العرب لأنه ليس من مصلحتك أن تكون غنياً وجيرانك فقراء”.

أما اليوم وفي (عهد الأبناء)، نرى دول الخليج النفطية تعمل على رفع أسعار البترول عالمياً لتزيد مواردها المالية وتتعاظم ثرواتها، ولكنها لا تبادر إلى تقديم مساعدات مالية لأي من شقيقاتها الدول العربية غير النفطية التي يتدهور اقتصادها وتزداد احوال مواطنيها المعيشية سوءاً بسبب ارتفاع اسعار البترول وازمة الغذاء العالمية.

ولا يمكن انكار حقيقة أن الخليجيين قدموا مساعدات كبيرة لمصر بلغت اكثر من 25 مليار دولار، في العقد الأخير، كان الهدف منها استعادة مصر التي فقدوها بعد ثورة يناير 2011، من حضن “الإخوان المسلمين” إلى حضن النظام الرسمي العربي الذي تعرض للتهديد بفعل انتفاضات الشعوب العربية واطاحتها برؤساء أنظمة الفساد والاستبداد في تونس ومصر وليبيا.

اذكر هنا ما قاله لي الملك سلمان – حين كان اميراً للرياض في عهد الملك الراحل فهد – “نحن نقدم مساعدات مالية لأشقائنا العرب لأنه ليس من مصلحتك أن تكون غنياً وجيرانك فقراء”

وفيما كان منتظراً أن تستفيد مصر من علاقتها الوثيقة بكل من الرياض وابو ظبي، خاصة في مواجهة قطر بعد العام 2017، قبل أن تصطلح الأمور بين الرياض والدوحة وبعدها بين القاهرة والدوحة، إلا أن مصر لم تتلق أي مساعدات مالية من السعودية والامارات، بل إستعاضت عنها، كما قال السيسي، “بسياسات الاستثمار المالي”. ويُردد المصريون أن معظم ما تلقته بلادهم كان عبارة عن ودائع بالدولار في البنك المركزي المصري لمساعدة مصر على توفير الدولار لوارداتها او الاستثمار بشراء اصول لشركات ومصانع ثقيلة مصرية او الاستثمار في العقارات وبناء المجمعات العمرانية الفاخرة وليس المشاريع الإسكانية لذوي الدخل المحدود.

وحين زار ولي العهد السعودي العاصمة المصرية في منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، وقع مع السيسي اتفاقات “اطارية” لاستثمار 7 مليارات من الدولارات خلال السنوات الثلاث القادمة ولا زالت مصر تنتظر هذه الإستثمارات. وما يسري على مصر ينطبق أيضاً على تونس والمغرب.

حتى الأردن، وهو دولة من دول الجوار السعودي، فقد سمع الكثير من الوعود السعودية بتمويل مشاريع تنموية واقتصادية، واقام صندوق الاستثمار السعودي مكاتب له في عمان وظّف فيها عشرات الاستشاريين الماليين والاقتصاديين لدراسة جدوى المشاريع التي من الممكن ان تستثمر بها السعودية، ولكن حتى الآن ما يزال الأردن ينتظر، “وهو فاقد الامل”، كما يقول أحد المسؤولين الأردنيين.

ولم يكسب الأردن من زيارة ولي العهد السعودي في حزيران/يونيو الماضي سوى توقيع مذكرة تفاهم لصندوق الاستثمار السعودي في مشروع شبكة السكك الحديدية الاردنية (مشروع سكة حديد العقبة) بقيت حبراً على الورق..

ولو عادت بنا الذاكرة الطرية إلى حزيران/يونيو الماضي أيضاً، عندما تصرف العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني مع زيارة الامير محمد بن سلمان للأردن بوصفها مبادرة مشكورة لاعادة الحرارة إلى العلاقات بين الرياض وعمان؛ لذلك أضفى الملك الأردني حفاوة بالغة باستقبال ضيفه السعودي ومنحه قلادة الشريف الحسين بن علي (أعلى وسام اردني يمنح لكبار قادة الدول) والذين تابعوا مشاهد اللقاءات والاجتماعات بينهما شعروا ان الزعيمين يرتبطان بأواصر الود الشخصي والصداقة. ولكن الحقيقة تشي بأن هذه الزيارة لم تفضِ إلى تقديم قروض واستثمارات للأردن حتى يومنا هذا.

إقرأ على موقع 180  الديموقراطيةُ مريضةٌ في "مجتمعاتها".. من يدفع الثمن؟

وتعترف الأوساط السعودية الرسمية المقربة من ولي العهد بتغيير سياسة المساعدات السعودية للدول الشقيقة والصديقة، “هناك سياسة جديدة وضعها ولي العهد أو “مبادىء جديدة” تقوم على اساس “المصالح الوطنية العليا” للمملكة. بمعنى اوضح “المصلحة السعودية أولاً ومن دون مجاملات او شراء رضى وخواطر من ليس معنا فهو ضدنا ولا يمكن ان نكون معه”، وهذه القاعدة تسري أيضا على لبنان الذي عادت إليه المملكة قبل شهر من موعد الإنتخابات النيابية الأخيرة وتوّجت عودتها بمنتدى عن الطائف بميزانية صفرية!

وهذه السياسة تفسر تلك الهرولة الإماراتية والبحرينية في تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، من جهة، وتمهل المملكة العربية السعودية في التطبيع الرسمي مخافة أن تفقد شرعية قيادة العالم الاسلامي، من جهة ثانية.

وفي الوقت الذي تقوم فيه سياسة الرياض على “المصلحة السعودية أولاً”، أثبتت الوقائع العديدة أن المملكة لا تستطيع ان تستغني عن تأييد أي من شقيقاتها الدول العربية لمواقفها السياسية سواء في صراعها مع ايران أو في خلافها الحالي الآخذ بالتصاعد مع ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن، والأمر نفسه يسري على ملف الصحافي الراحل جمال خاشقجي.

ولذلك، لاحظنا ان العديد من الدول العربية – وحتى الاسلامية – بمن فيهم مصر والاردن، اعلنت تأييدها السياسي لبيان “أوبك بلاس” ومواقف المملكة في مواجهة حملة تقودها إدارة بايدن تتهم فيها الرياض بالإصطفاف إلى جانب روسيا بدليل خفض إنتاجها النفطي والتسبب بأزمة طاقوية عالمية، في الوقت الذي تعلن فيه عن تقديم مبلغ 400 مليون دولار مساعدات ومعونات الى اوكرانيا!

هذا الإرتجال السعودي يقتضي إعادة نظر وصولاً إلى توسيع مساحة الأمن القومي السعودي، بحيث يستفيد من ثروة المملكة وجيرانها كل بلد عربي بحاجة إلى مساعدات.. وبالتالي مغادرة منطق التملق الذي تقوم به دول عربية فقيرة وتكون نتائجه في معظم الأحيان فقط الإنتظار على قارعة الإستجداء!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان نمر

كاتب عربي متخصص بالشؤون الخليجية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180   حزب الله إلى أين؟