كانت تركيا منذ بداية الصراع هي الحامي والضامن لأغلب من فرّ من قمع السلطة القائمة في دمشق وكذلك لمن عمل حثيثاً بهدف رحيلها، مهما كانت توجّهاته ووسائله. وهناك حوالى أربعة ملايين سوريّ في تركيا اليوم وكذلك مثلهم تقريباً من المقيمين والنازحين في ريفي إدلب وحلب. وتركيا تدعم هناك “فصائل عسكريّة” مختلفة ويتواجد مئات من عناصر الجيش التركيّ. هكذا تبدو “المصالحة” بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد وكأنّها تخلٍّ عن جميع هؤلاء وتركهم لمصيرٍ مجهول، بما فيه ما يخصّ “إعادة اللاجئين”. ويتصاعد هذا القلق مع اقتراب موعد تجديد قرار مجلس الأمن حول ممرّ المساعدات الإنسانيّة إلى منطقة إدلب.
بالنسبة لـ”قسد”، تختلف أسباب القلق، لارتباطها بالتهديدات التركيّة بعمليّة عسكريّة، قد تصبح مشتركة مع الجيش السوري، ضدّ “الإرهاب” و”حزب العمّال الكردستاني”، كما لمّحت التصريحات حول اللقاءات العسكريّة والأمنيّة التركيّة-السوريّة-الروسيّة. برغم أنّ هذا القلق أقلّ حدّةً لأنّ الضامن هو في هذه الحالة.. الولايات المتحدة. بل أنّه أقلّ من القلق الذي كان قائماً منذ فترةٍ قريبة عندما هدّدت تركيا بعملٍ عسكريّ جديد ووشيك أحاديّ الجانب.
بالمقابل، تكسِر هذه الخطوات الاستعصاء القائم في الأوضاع السوريّة والآخذ مع الزمن إلى تقسيمٍ فعليّ للبلاد. فمسار مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة لا يشير إلى أيّ تقدّم، والمفاوضات بين السلطات السوريّة و”قسد” ليست أفضل حالاً. فتبدو الأمور وكأنّها “استعصاء مكسيكيّ” ثلاثيّ الأطراف لا حلّ له. لأنّ من يجرؤ على المبادرة قد يكون في النهاية هو الخاسر الأكبر. سواءً إن نظرنا لهذا الاستعصاء من وجهة نظر الأطراف السوريّة أو الأطراف الدوليّة والإقليميّة اللاعبة.
بالطبع، هناك أسباب انتخابيّة آنيّة للمبادرة التركيّة في كسر الاستعصاء، لكنّ لها أيضاً أسبابٌ أكثر عُمقاً ضمن تموضع تركيا في الصراع بين روسيا و”الغرب”، وكذلك بين “الغرب” وإيران، بل أعمق من ذلك في التخوّف من أن يؤدّي تقسيم سوريا إلى تقسيم تركيا ذاتها. لكن في جميع هذه الأحوال، يفتح كسر الاستعصاء هذا نافذةً لجميع الأطراف لإعادة تقييم مواقفها بنفس الدرجة من الحذر عبر تبنّي الآليّة التدريجيّة التي تأتي بها “المصالحة” المذكورة.
المعني الأوّل هو “قسد” و”إدارتها الذاتيّة”. صحيحٌ أنّ أيّاً من الأطراف لن يجرؤ على الدخول في صدامٍ مباشر مع القوّات الأمريكيّة. لكنّ بقاء هذه القوّات ليس مضموناً على المدى البعيد. بالتالي، يشكّل وجودها اليوم فقط فرصةً أفضل لتفاوضٍ جديّ بين السوريين لما يهمّ أكراد سوريا إذا بقي هدف “تنظيماتهم” هو بقاء أرض سوريا وشعبها موحّدين. لأنّ هذا الهدف لا يُمكِن أن يعني استمرار “قسد” كقوّة عسكريّة منفرِدة غير مندمِجة مستقبلاً في الجيش السوري ولا فتح “الإدارة الذاتيّة” بعثات “دبلوماسيّة” مستقلّة لها في الخارج.
لقد أثبتت الوقائع أنّ مفاوضات أستانة كانت أكثر فعاليّةً من مفاوضات جنيف. لأنّ الأولى اعتمدت على أكثر القوى تأثيراً على الأرض وعلى الصراع المسلّح: روسيا وتركيا وإيران. ولأنّ الثانية جعلت التفاوض السوري بين طرفين فقط وليس ثلاثة كما هو الواقع على الأرض. لكنّ هذا لا يمنع قدرة الأمم المتحدة والمبعوث الدولي على المبادرة تزامناً مع تسارع “المصالحة”
والمعني الثاني هو أطياف “المعارضة السوريّة”. هنا أيضاً صحيحٌ أنّ الدولة السوريّة ليست قادرة اليوم على احتواء مناطق الشمال الغربي اجتماعياً واقتصاديّاً وليست قادرة على احتواء اللاجئين إن عادوا، ليس فقط في ميدانيّ الصحّة والتعليم، بل أيضاً بالضرورات الأساسيّة من غذاء وكهرباء ووقود. وصحيحٌ أيضاً أنّه لا يُمكِن توقّع معركة عسكريّة مكلِفة جدّاً مع “الجيش الوطني” المعارِض أو “هيئة تحرير الشام”. إذ أنّ الأوضاع حتّى في الجنوب السوري، حوران وجبل العرب، وإن كانت اليوم “اسميّاً” تحت سيطرة الدولة فهي لم تنتُج عن انتصارٍ عسكريّ وإنّما عن تفاوضٍ، وهي اليوم تُبقي استقلاليّة كبيرة للفعاليّات والحراك المحليّين.
بالتالي تعي السلطة السوريّة تماماً أنّه لا يُمكن العودة إلى ما قبل 2011 وأنّ الخروج من الاستعصاء الحالي يتطلّب تغييراً جذريّاً في النهج والممارسة. كما تعي أنّ السلطة التركيّة لن تتقارب معها دون مقابل. لكن تسارع خطوات “المصالحة” التركيّة-السوريّة يفتح فرصةً للتفكير العقلاني والسياسي على الطرف الآخر. أنّه إذا كان الهدف هو بقاء سوريا فيعني هذا الخروج عن أوهام “إسقاط النظام بكافّة رموزه وأركانه”، وأنّ الحلّ السياسيّ المستنِد على قرار مجلس الأمن رقم 2254 يعني بالضبط تفاوضاً مع هذا “النظام” وتحقيق بعض مطالب الشعب السوري وردّ كرامته التي هدرتها سنوات الصراع.. والفرصة أكبر اليوم في هذا التفاوض إن جرى بالتزامن مع التفاوض التركي، لا استجداءً لتركيا كي تعود عن “المصالحة”.
ومثلما كان الصراع الذي أخذ سوريا والسوريين والسوريّات إلى الاستعصاء طويلاً ومرهقاً، لن تأتي خطوات الخروج منه إلاّ مع الزمن وبشكلٍ تدريجيّ. وهنا يُمكِن أن تشكِّل إعادة توحيد سوريا، اقتصاديّاً واجتماعيّاً، وفتح المعابر للبضائع والأفراد دون الحاجة للتهريب ومافياته، خطوةً أولى تخفّف معاناة السوريين وتعيد التواصل بينهم. لكنّ التساؤلات الأساسيّة تبقى في ماهيّة المبادرات التي يُمكِن أن تأخذها “الإدارة الذاتيّة” من جهتها، و”المعارضة السوريّة”، الممثّلة بـ”هيئة التفاوض”، من الجهة الأخرى؟
وهناك تساؤلٌ رئيسيّ عن المبادرة التي يُمكِن أن تقوم بها الأمم المتحدة، راعية مفاوضات جنيف، في هذا السياق؟
لقد أثبتت الوقائع أنّ مفاوضات أستانة كانت أكثر فعاليّةً من مفاوضات جنيف. لأنّ الأولى اعتمدت على أكثر القوى تأثيراً على الأرض وعلى الصراع المسلّح: روسيا وتركيا وإيران. ولأنّ الثانية جعلت التفاوض السوري بين طرفين فقط وليس ثلاثة كما هو الواقع على الأرض. لكنّ هذا لا يمنع قدرة الأمم المتحدة والمبعوث الدولي على المبادرة تزامناً مع تسارع “المصالحة”. بل ضرورة هكذا مبادرة لرعاية توافقات بين السوريين وبين الدول، دول أستانة والغرب.
كذلك هناك تساؤل وضرورة أن تبادر الدول العربيّة، وخاصّة المملكة العربيّة السعودية ومصر، في سياق تسارع “المصالحة” التركية-السورية، لأنّها يُمكِن أن تخلق توازناً يُطمئِن الأطراف السوريّة المختلفة.
هذا كلّه ليس سهلاً، خاصّةً وأنّ هناك من يدعو لنقل الصراع في أوكرانيا وعليها إلى سوريا وإعادة الأوضاع إلى الحرب المفتوحة، بغية هزيمة روسيا أوّلاً في سوريا. لكنّ عودة الحرب ستكون جريمة جديدة بحقّ السوريين والسوريّات. وجريمةٌ أيضاً الإبقاء على الاستعصاء القائم وموت الناس.. جوعاً وقهراً.