المنطاد، الذي تقول واشنطن إنه معدٌ للتجسس برغم النفي الصيني، أنهى أشهراً من “التهدئة” التي أرساها لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ في منتجع بالي الأندونيسي على هامش قمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وفي هذا السياق، كان من المقرر أن يزور وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بكين في 5 شباط/فبراير، لكن الزيارة أرجئت إحتجاجاً على حادث المنطاد.
وثارت ثائرة الجمهوريين بسبب تأخر بايدن حتى 4 شباط/فبراير الجاري في إعطاء الأوامر لمقاتلة “إف-22” بإسقاط المنطاد فور مشاهدته في 2 شباط/فبراير فوق ولاية مونتانا التي تتركز فيها صواريخ إستراتيجية عابرة للقارات ومواقع نووية؛ وعوض ذلك، الإنتظار حتى بات المنطاد فوق سواحل ولاية كارولاينا الجنوبية. وزادت الأمور تعقيداً مع إعلان قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية عن إكتشاف ثلاثة “أجسام بحجم سيارة عادية” طائرة فوق آلاسكا وكندا وإسقاطها في الأيام التي تلت إسقاط المنطاد الأول.
لا يغيب عن بال المسؤولين الأميركيين وهم يتدارسون الرد على إنتهاك المنطاد الصيني للأجواء الأميركية، أن الأولوية الجيوسياسية الآن تقتضي التركيز على كيفية منع روسيا من تحقيق الإنتصار في أوكرانيا، أكثر من التسرع بتبني إجراءات تستفز الصين
“الأجسام” الطائرة أحدثت بلبلة واسعة، إضطر معها البيت الأبيض إلى النفي بأنها “كائنات” من كوكب آخر، في حين ذهب دعاة التشدد حيال الصين إلى الإعلان أنها مناطيد صينية أخرى ترمي إلى إختبار الدفاعات الأميركية.
أجواء الشحن ضد الصين بلغت مستويات عالية. وعمد مجلسا النواب والشيوخ إلى الإستماع إلى شهادات مسؤولين سياسيين وعسكريين أميركيين، بغية معرفة ما الذي يحصل وكيف سترد الولايات المتحدة. والحملة التي يقودها رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن ماكارثي ضد الصين، اليوم، تشبه إلى حد بعيد الحملة التي قادها السناتور جوزف ماكارثي ضد الإتحاد السوفياتي في الخمسينيات الماضية. وهناك تقارير تتحدث عن إعتزام كيفن ماكارثي زيارة تايوان مستقبلاً على غرار ما فعلت نانسي بيلوسي.
ولإحتواء الموقف وعدم الظهور بمظهر المتساهل حيال بكين في وقت يستعد لإعلان ترشحه لولاية رئاسية ثانية، أدرج جو بايدن ست شركات صينية تعمل في مجال الفضاء على اللائحة السوداء، بينما هناك سباق بين البيت الأبيض ومجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون، من أجل فرض قيود على الشركات الأميركية التي لديها إستثمارات في الصين.
وسواء أكانت الرياح هي التي دفعت المنطاد الصيني إلى الأجواء الأميركية أو أن الأمر كان عملاً متعمداً، فإن ردود الفعل على الحادث، تكشف هشاشة العلاقات بين أقوى إقتصادين في العالم. ويتبين أن عدم الثقة بلغ مستوى هو الأعلى منذ تطبيع العلاقات قبل 50 عاماً، وفق ما يكتب غافين بايد في مجلة “بوليتيكو” الأميركية.
والمستشار البارز لدى المجلس الأطلسي هارلان أولمان يتساءل في مقال بمجلة “ذا هيل” الأميركية “هل كان الرئيس الصيني يعلم بالعملية أو أجاز تنفيذها؟ أم أنها كانت أمراً شبيهاً بما حدث عام 1963 عندما كان الرئيس دوايت أيزنهاور لا يعلم برحلات طائرات التجسس يو-2 فوق روسيا ونفى أول الأمر إسقاط إحدى هذه الطائرات التي كان يقودها غاري فرنسيس باورز، مما فرض إلغاء قمة مع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف عامذاك”.
مجلة “نيوزويك” تحدثت عن “حساسية الأميركيين الدائمة، بأن ثمة من يراقبهم من السماء منذ إطلاق الإتحاد السوفياتي القمر الإصطناعي (سبوتنيك) عام 1957”.
وبعيداً عن هذه الحمى السياسية سواء من قبل الجمهوريين أو في وسائل الإعلام، يبدو بايدن وكأنه لا يريد قطع خطوط الإتصال بالصين في وقت تستعر فيه نار الحرب الروسية-الأوكرانية. وحتى لو إتخذ المزيد من الإجراءات العقابية ضد بكين، فإنه سيحاول أن تكون خطوات محسوبة بحيث لا تحدث رد فعل صيني واسع، وتكون سبباً في دفع شي جين بينغ إلى مزيد من التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أي خطوة غير مدروسة بدقة في آسيا، يمكن أن تُكلّف أميركا كثيراً في أوروبا. من هنا إختار بايدن قبل يومين الحديث بهدوء عن واقعة المنطاد، قائلاً إنه يتطلع إلى التواصل مع شي جين بينغ “من أجل بحث هذه القضية بعمق”، وأنه يريد “التنافس وليس المواجهة مع الصين”. وبينما كان بايدن يتحدث، كان كبير مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية لشؤون الصين مايكل تشيس يصل إلى تايوان. هذا دليل على أن مرونة البيت الأبيض لا تعني عدم البعث برسائل تُقلق بكين.
والصين هي الأخرى تبعث برسائل تُثير القلق لدى أميركا والغرب عموماً. وأفضل من عبّر عن ذلك، هو الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الذي قال لدى وصوله إلى مؤتمر ميونيخ للأمن يوم الجمعة الماضي “نتابع عن كثب العلاقات الآخذة في التزايد والتوسع بين الصين وروسيا.. نرى أنهما يعززان التعاون بينهما، ويجريان تدريبات مشتركة، وينفذان دوريات بحرية وطلعات جوية معاً”. وهناك مثلاً تدريبات بحرية روسية-صينية-جنوب أفريقية في المحيط الهندي في 22 شباط/فبراير الجاري.
على رغم أن بايدن يتحدث عن أنه لا يريد “حرباً باردة جديدة”، فإن الوقائع والأحداث تبرهن على أن العالم يعيشها واقعاً، في ضوء ضراوة التنافس التجاري والعسكري القائم اليوم بين أميركا والصين
لا يغيب عن بال المسؤولين الأميركيين وهم يتدارسون الرد على إنتهاك المنطاد الصيني لأجواء الولايات المتحدة، أن الأولوية الجيوسياسية الآن تقتضي التركيز على كيفية منع روسيا من تحقيق الإنتصار في أوكرانيا، أكثر من التسرع في تبني إجراءات تستفز الصين.
ومع ذلك، لا يخفف ذلك، من دواعي القلق الإستراتيجي في أميركا حيال الصين. وقيادة القوات الإستراتيجية الأميركية تقول إن بكين لديها الآن منصات لإطلاق الصواريخ الباليستية أكثر مما لدى الولايات المتحدة. وهناك تقديرات أميركية بأن الصين تزيد ترسانتها النووية بخطى متسارعة، وبأنها يمكن أن تحقق المساواة النووية مع أميركا وروسيا في العقد المقبل.
وتذكر مجلة “ذا هيل” بما يقوله مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إي” وليم بيرنز والقائد السابق للقوات الأميركية في منطقة المحيطين الهاديء والهندي الأدميرال فيليب ديفيدسون، من أن الصين ستكون قادرة على غزو تايوان بنجاح بحلول عام 2027. وعلى رغم أن بايدن يتحدث عن أنه لا يريد “حرباً باردة جديدة”، فإن الوقائع والأحداث تبرهن على أن العالم يعيشها واقعاً، في ضوء ضراوة التنافس التجاري والعسكري القائم اليوم بين أميركا والصين من المحيطين الهاديء والهندي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا.
المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية جوزف بوسكو ينتقد وزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر لتمسكه حتى الآن بصوابية قرار الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون بالإنفتاح على الصين، بصرف النظر عن إعادة التقويم التي أجراها نيكسون في سنواته الأخيرة للصين عندما قال :”ربما خلقنا فرانكشتاين بأيدينا”.