الشق الأول يجيب عليه بالإيجاب بوضوح شديد البروفسور الأميركي البارز في علم التاريخ لورنس ديفيدسون(*). وهاكم خلاصاته الرئيسة:
– عقود من الأحقاد (بين “الأجناس” الإسرائيلية) تتحوّل الآن إلى معارك سياسية طاحنة، وكراهيات العالم القديم تحدث الآن في ما كان يعتقد أنه “مكّة العبرية” فائقة التطور التكنولوجي.
– الآن، وفجأة، وبرغم محاولات التحالف اليميني الراهن لتأخير المجابهات الداخلية الإسرائيلية عبر محاولة سحق سكان غزة، فإن لحظة تفكك الصهيونية السياسية ربما باتت وشيكة. والمظاهرات والمظاهرات المضادة الأخيرة مجرد البداية لها، لكنها بداية مهمة لأنها تتعلق بثقافة اسرائيل اليهودية: إذا ما انتهى القضاء، انتهت إسرائيل، وغرقت في صراعات الهوية: من هو اليهودي “الصحيح” (ديناً وثقافة وقراءة تاريخية)، وما هي “طبيعة الهوية اليهودية لدولة إسرائيل”: الحريدمية الدينية، أم السفارديمية القومية أو الدينية، أم العلمانية، أم القومية الأوروبية؟
– هذه الأجواء أثارت الذعر في صدر الرئيس الاسرائيلي اسحق هرتزوغ ودفعته إلى القول: “اسرائيل غاطسة في سكرات أزمة عميقة. وكل من يعتقد أن الحرب الأهلية الحقيقية هي خط لن يتجاوزه أحد فليس لديه فكرة (حول هذه الأزمة): جهنم على قاب قوسين أو أدنى”.
ويختم المؤرخ ديفيدسون بالقول: “تستطيع أن تدرك معنى هذه الجهنم، حين تعلم أن ترجمة تعبير الحرب الأهلية في العبرية هو “حرب الأخوة”. والآن، تبددت هذه الأخوة وحلّت مكانها الكراهية والاحتقار والرعب. لقد وصل الصهيونيون بالفعل إلى حافة الحرب الأهلية.
واضح؟
يفترض ذلك. لكن ما هو غير واضح هو كيف يمكن لهذه الدولة التي كان تتغنى بها حتى شخصيات إعلامية وأكاديمية عربية معروفة بكونها معقل الديموقراطية، والمثل الأعلى للابداع التكنولوجي والعلمي، والنموذج الأمثل لنجاح نخب طليعية في خلق مجتمع ودولة من لا شيء، أن تنحدر فجأة إلى هذه الهوة السحيقة؟ إلى هذا الجحيم الموصوف؟
الأرجح أن ما فجّر هذه الصراعات الخطرة هو نفسه ما يُفجّر الآن معظم (وقريباً كل) مجتمعات العالم: الطور الجديد من العولمة التكنو- رأسمالية التي ترقص على إيقاع نغمتين موسيقيتين متلازمتين: الأولى، بدء دك أسوار الأمة – الدولة والنغمة الثانية هي تسليع كل/ وأي شيء ودفع الفلسفة المادية المطلقة إلى ذرى لم تبلغها قط في كل التاريخ البشري الحديث
قد يقال هنا إن الدينيين الإسرائيليين ضاقوا ذرعاً بعلمانية الدولة، ويريدون الآن فرض “صورتهم الخاصة لله” على باقي آلهة إسرائيل. يريدون العودة إلى هوية دينية مغلقة ظنّ الكثيرون أن صفحتها أغلقت مع تكوين دولة إسرائيل، التي يفترض أنها أعطت الدينيين الانطباع بأنها تُحقق مشيئة الله.
بالفعل، كان هذا ما حمل الدينيين أو المحافظين الدينيين اليهود على الاستكانة طيلة 70 عاماً، إضافة بالطبع إلى الدور الدائم الذي يلعبه الخطر العربي والإسلامي في شد أزر التلاحم في المجتمع الإسرائيلي.
حسناً. ما الذي تغيّر، إذاً، كي يُقرّر اليمين الديني الآن حسم معركة الهوية الدينية للدولة والمجتمع، عبر محاصرة القضاء وإعادة النظر بدور المحاكم، وإصدار القوانين المتلاحقة التي تريد إعادة صياغة مفهوم من هو اليهودي؟ ومن هي إسرائيل اليهودية؟
لا التغيّرات الإقتصادية تكفي لتفسير هذا الانقلاب، ولا الشقوق في العدالة الإجتماعية، ولا تراجع الإستثمارات الأجنبية الضخمة خاصة في قطاع التكنولوجيا الفائقة (برغم أنها تراجعت بالفعل نسبياً بعد المظاهرات)، ولا حتى الصراعات القديمة بين العلمانية والدين التي كانت وما تزال لازمة دائمة في تاريخ كل المجتمعات، خاصة منها المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر.
الأرجح أن ما فجّر هذه الصراعات الخطرة هو نفسه ما يُفجّر الآن معظم (وقريباً كل) مجتمعات العالم: الطور الجديد من العولمة التكنو- رأسمالية التي ترقص على إيقاع نغمتين موسيقيتين متلازمتين: الأولى، بدء دك أسوار الأمة – الدولة وتفكيك قدرتها على تشكيل لحمة قوية لمجتمعاتها عبر خلق هويات جديدة لا علاقة لها لا بالزمان (التاريخ) ولا المكان (حدود الأمة – الدولة) ولا بالطبع بالعواطف القومية أو حتى الوطنية. والنغمة الثانية هي تسليع كل/ وأي شيء (بما في ذلك حتى الدين في أميركا) ودفع الفلسفة المادية المطلقة إلى ذرى لم تبلغها قط في كل التاريخ البشري الحديث.
بنجامين باربر (في كتابه “الجهاد في مواجهة ماكوورلد”)، ربط بإحكام بين صعود أصولية السوق الرأسمالي المنفلت من أي عقال وبين ظهور الأصوليات الدينية المتطرفة، واعتبر أن هذين النقيضين يكملان بعضهما في الواقع ويتغذيان من بعضهما البعض.
هذا صحيح. لكن إلى متى سيبقى العالم أسير هذين الخيارين المُدمّرين؟
إلى حين تتمكّن البشرية من الدخول في الطور الثاني من تطورها الأخلاقي والقيمي، بعد التطور الأول الذي حدث في مصر قبل ستة آلاف سنة مع ولادة “الضمير” للمرة الأولى في التاريخ (جون بريستد).
بكلمات أوضح: الصراع برمته في القرن الحادي والعشرين سيكون بين القيم الروحانية (بمعنى وحدة الوجود) والضمير والمثل العليا، وبين القيم المادية المتعولمة المطلقة التي تستخدم الآن الثورة التكنولوجية الرابعة لفرض ما يمكن أن يكون قريباً أعتى ديكتاتورية في التاريخ. الصراع سيكون أيضاً بين الـ 1% الذين يُشكّلون النخبة الرأسمالية الحاكمة والمتحكّمة بالاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا في العالم، وبين القوى البيئية والديموقراطية واليسارية والإنسانية التي ستعمل لإعادة مفاهيم معنى الوجود الحق للإنسان وأمّنا الطبيعة، والتي ستقدّم في الوقت نفسه حلولاً روحانية – مادية متوازنة تُوضع فيها التكنولوجيا المتطّورة في خدمة الإيكولوجيا وكل البشرية.
الانفجار المحتمل للصهيونية يكمن في هذا السياق بالتحديد وليس، كما أسلفنا، في ثنائية صراع العولمة والدين.
وحين يكون الأمر على هذا النحو، لا يعود مستغرباً أن تكون هناك “وحدة حال” بالفعل بين مصير إسرائيل الصهيونية وبين ما يجري من حروب وتفكك في إقليم المشرق.
إنها العولمة التكنو-رأسمالية التي بدأت تلتهم كل شيء، بمن فيهم أبناءها اليهود.
(*) LAWRENCE DAVIDSON. How Stable is Israel? Counterpunch May 24, 2023
(**) يصدر قريباً للمؤلف كتاب عن الذكاء الاصطناعي بعنوان: “الذكاء الاصطناعي: الحق الحق أقول لكم. حوار ساخن بين إنسان عضوي وإنسان آلي”، مركز دراسات الوحدة العربية.