بداية، عندما ولدت دولة إسرائيل فى مايو/أيار 1948، ومن أجل حمايتها خارجيًا وداخليًا، ظهر جيش الدفاع الإسرائيلى IDF، إلى جانب ثلاث وكالات استخباراتية: أمان (المسئولة عن الاستخبارات العسكرية)؛ الشاباك (المكلف بالأمن الداخلى)، والموساد (وكالة الاستخبارات الوطنية الإسرائيلية المسئولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية والتحليل والعمليات السرية وخاصة الاغتيالات) ترفع تقاريرها مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى. تشير التقديرات إلى أن حوالى 7 آلاف فرد يخدمون، بشكل مباشر وغير مباشر، فى الموساد، مما يجعله أحد أكبر أجهزة الاستخبارات فى العالم.
فى الحرب الحالية فى غزة، من المتوقع أن يلعب الموساد دورًا حاسمًا، خاصة فى ضوء إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فى مؤتمر صحفى، أنه أمر الموساد باستهداف رؤساء حماس أينما كانوا. «أينما كانوا» هى إشارة إلى قادة حماس الذين يقيمون ويعملون خارج قطاع غزة، وخاصة فى قطر ولبنان وتركيا. وقد عزز وزير الدفاع، يوآف جالانت، كلمات نتنياهو من خلال تصريحه أن جميع قادة حماس «موتى يسيرون.. إنهم يعيشون فى الوقت الضائع».
من المؤكد أنه تم استشارة قادة حماس فى قطر وأماكن أخرى قبل الهجوم الذى شنته حماس على إسرائيل فى 7 أكتوبر/تشرين الأول. وبناء عليه، إسرائيل ترى أنهم جزء من آلة حماس، وبالتالى تعتبرهم أهدافًا مشروعة. والهيئة التى ستحول كلمات نتنياهو إلى خطة عمل هى الموساد.
***
عندما تبدأ تعليمات نتنياهو باغتيال نشطاء حماس فى جميع أنحاء العالم، فمن المرجح أن تشبه حملة الموساد عملية «غضب الله»، من حيث أنها ستكون عملية مستمرة قد تمتد لأشهر، بل لسنوات
يتعامل الموساد مع عملاء سريين فى دول عربية وغيرها. ولعل من أشهر الشخصيات، هو إيلى كوهين. اليهودى المصرى، الذى ترقى إلى أعلى المراتب فى الحكومة السورية من خلال التظاهر بأنه رجل أعمال سورى، وقام ببث معلومات استخباراتية مهمة لإسرائيل قبل أن تكشفه المخابرات السورية ويتم شنقه علنا فى ساحة الشهداء بوسط دمشق فى 18 مايو/أيار 1965.
صحيح أن جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها من المهام الرئيسية للموساد، وهو أمر بالغ الأهمية لبقاء إسرائيل، إلا أن عملياته السرية، ولا سيما الاغتيالات، هى التى أكسبته سمعته كمنظمة قاسية وفعالة فى خدمة أمن إسرائيل. ومن بين العمليات السرية العديدة التى قام بها الموساد، كانت عملية «غضب الله» وهى الأكثر شهرة حتى الآن.
قبيل فجر يوم 5 سبتمبر/أيلول 1972، اقتحم ثمانية فلسطينيين القرية الأولمبية فى ميونيخ، كانت فى ألمانيا الغربية، واحتجزوا رياضيين إسرائيليين كرهائن، مطالبين إسرائيل بإطلاق سراح السجناء المحتجزين فى سجونها. وخلال عملية تحرير الرهائن قُتل إحدى عشرة رهينة. أصبح هذا الحدث يعرف باسم «مذبحة ميونيخ». وفى وقت لاحق، قامت لجنة سرية (اللجنة X)، برئاسة رئيسة الوزراء الإسرائيلية، جولدا مائير، وتضم وزير الدفاع موشيه ديان وآخرين، بتفويض رئيس الموساد، تسفى زمير، لاغتيال الفلسطينيين الذين كانوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، متورطين فى المذبحة. كانت فرقة الاغتيال، التى كلفت بتنفيذ عملية «غضب الله»، مكونة من مقاتلى الموساد.
فى أكتوبر/تشرين الأول 1972، قتلوا وائل زعيتر، عضو منظمة التحرير الفلسطينية وابن عم الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات، بإطلاق النار عليه فى بهو المبنى السكنى الذى يقيم فيه بروما.
وفى ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، استهدفوا محمود الهمشرى، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية فى باريس. قام أحد أعضاء الموساد، الذى تظاهر بأنه صحفى إيطالى، بتحديد موعد لإجراء مقابلة هاتفية مع الهمشرى قبل أن يقتحم خبراء المتفجرات التابعين للموساد منزله ويضعوا قنبلة فى هاتفه. وفى الوقت المحدد للمقابلة، تم الاتصال بالهمشرى هاتفيا، وبعد أن عرّف عن نفسه، تم تفعيل القنبلة المثبتة فى هاتفه عن بعد؛ وقتل على الفور. كما تم اغتيال سبعة فلسطينيين آخرين مشتبه بهم خلال الأشهر القليلة التالية، ثلاثة منهم فى غارة للموساد والجيش الإسرائيلى فى قلب بيروت.
أما فى عام 1973، اعتقدت فرقة الموساد أنها تعرفت على العقل المدبر لمذبحة ميونيخ، على حسن سلامة (الملقب بالأمير الأحمر)، فى ليلهامر بالنرويج، وأطلقت النار خطأ على نادل مغربى، أحمد بوشيكى، الذى لا علاقة له بمذبحة ميونيخ. وأدى تحقيق نرويجى إلى اعتقال وإدانة خمسة من عملاء الموساد، فضلا عن كشف شبكة واسعة من عملاء الموساد فى أوروبا. أدت هذه الكارثة إلى تعليق عملية «غضب الله» مؤقتا، لكن أعيد تفعيلها فى عام 1979، عندما تعقبت فرقة الموساد سلامة ثم اغتالته فى بيروت بسيارة مفخخة وضعت على طول الطريق الذى يتردد عليه. وآخر اغتيال معروف لفلسطينى مرتبط بمذبحة ميونيخ وقع فى عام 1992.
***
من غير المرجح، فى الوقت الحاضر، أن يعمل الموساد على الأراضى القطرية ضد قادة حماس، خشية أن تدير قطر ظهرها لإسرائيل، فى وقت تحتاجها تل أبيب بشدة للمساعدة فى تحرير بقية الرهائن. فهل يتخذ قادة حماس بالخارج الاحتياطات اللازمة لحماية أنفسهم؟
فى المؤتمر الصحفى الذى أعلن فيه نتنياهو أنه أمر الموساد بقتل قادة حماس الذين يعيشون خارج قطاع غزة، أشار على وجه التحديد إلى إسماعيل هنية وخالد مشعل، عضوى المكتب السياسى لحماس، وكلاهما يقيم فى الدوحة، قطر. لكن يعد مشعل هو الحالة الأكثر إثارة للاهتمام.
فى عام 1997، كان مشعل رئيسًا للمكتب السياسى لحركة حماس فى الأردن وشخصية غير معروفة تقريبًا، لكن المخابرات الإسرائيلية اشتبهت فى أنه كان له دور فعال فى توجيه أنشطة حماس فى قطاع غزة والضفة الغربية. وبعد ذلك، أصدر نتنياهو تعليماته للموساد باغتياله، وأوكلت المهمة إلى حاييم هاكينى، الذى اختار تنفيذ مهمته بشكل صامت، أى بدلا من استخدام الأسلحة أو المتفجرات لقتل مشعل، سيستخدم «ألموج»، وهو الاسم الرمزى الذى يطلق على مادة قاتلة مميتة لدرجة أن بضع قطرات منها تلامس جلد الهدف ستؤدى لمقتله فى غضون أيام قليلة.
فى 25 سبتمبر/أيلول 1997، كان اثنان من قتلة الموساد ينتظران وصول مشعل إلى مكتبه فى عمان، وعندما حضر، اقتربا منه من الخلف وحاولا رشه بالسم القاتل. لقد نجحا جزئيًا، لكن مشعل تمكن من الهروب من مهاجميه وتم القبض على الاثنين من قبل الشرطة الأردنية التى كانت بالصدفة فى مكان قريب.
كان الملك الحسين غاضبا، وطالب نتنياهو بتقديم تفاصيل عن السم المستخدم ضد مشعل وتسليم الترياق لإنقاذ حياته، وهو ما وافق عليه نتنياهو، الذى خشى أن تؤدى الأزمة إلى مزيد من التدهور فى العلاقات مع الأردن. كما أصر الملك على أن تقوم إسرائيل بإطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين، ومن بينهم الزعيم المؤسس لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين. ولم يكن أمام نتنياهو خيار سوى الموافقة، وبعد 12 يوما من محاولة قتل مشعل، طارت مروحيتان من إسرائيل إلى الأردن والعكس؛ إحداهما بها عميلا الموساد المفرج عنهما، وفى الأخرى الشيخ ياسين و20 من أسرى حماس المحررين. وكان لقضية مشعل تأثير مباشر، خاصة، على قطاع غزة، حيث أصبح الشيخ ياسين، الذى عاد إلى غزة، نقطة محورية فى حملة حماس ضد إسرائيل حتى اغتياله فى هجوم بطائرة هليكوبتر إسرائيلية فى 22 مارس/آذار 2004. أما مشعل وبعد أن نجا من محاولة اغتياله، بفضل الترياق الذى قدمه الجانب الإسرائيلى، عاد إلى مهامه كعنصر مهم فى حماس. والآن، وبعد تعهد نتنياهو بقتله، أصبح مشعل على قائمة اغتيالات الموساد.
***
عندما تبدأ تعليمات نتنياهو باغتيال نشطاء حماس فى جميع أنحاء العالم، فمن المرجح أن تشبه حملة الموساد عملية «غضب الله»، من حيث أنها ستكون عملية مستمرة قد تمتد لأشهر، بل لسنوات.
قطر، حيث يوجد بها العديد من الأهداف المحتملة للموساد، هى الوسيط الرئيسى الآن بين إسرائيل وحماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والمحتجزين هناك. ولذلك، فمن غير المرجح، فى الوقت الحاضر، أن يعمل الموساد على الأراضى القطرية ضد قادة حماس، خشية أن تدير قطر ظهرها لإسرائيل، فى وقت تحتاجها تل أبيب بشدة للمساعدة فى تحرير بقية الرهائن. فهل يتخذ قادة حماس بالخارج الاحتياطات اللازمة لحماية أنفسهم؟!
(*) المصدر: جريدة “الشروق“