في غزة.. المُقيمة بدمائها

تتدافع الأفكار. تختلط الحرائق بالضجيج والبرد. تذهب عبثاً كل محاولات تهدئة النار. الأفكار جامحة. الروح ملتهبةٌ، مُنطلقةٌ، متأهبةٌ لكل عاجل، سريع، محتمل، بل لكل الاحتمالات. لكن ما هي الاحتمالات، وما معنى "العواجل" على مدار البث الصاخب؟. التساؤلات والتكهنات تُربكنا، فلا ينفع لا العقلاني منها ولا اللاعقلاني، فكيف بالتبريرات؟

في غزة المُقيمة في دمائها؛ النازفة على وقع عدّاد ضحاياها المفتوح من المدنيين الأبرياء، لا بد من صلاة لا بل صلوات نيابة عن أمة غائبة بالمتوجّب عليها. المتوجّب على “الأمة التي أُخرجت للناس”. لكن عن أية أمة نتحدث وعن أي متوجّب عليها؟

للأسف، لا نرى إلا الصمت والخواء يُكمّم سكوتها ويلجم مستقبل أبنائها. أمةٌ تضع القيود والسلاسل بذاتها على ذاتها دونما يقظة لذرّة من مصالحها. أمةٌ تستفيق على ركودها. تتعارك مع الروتين من أسرار بقائها. تتوجّس من شُبهة مصطلحات قد تمسّ الموروث من صنمية وأصنام أزمانها الغابرة. أمةٌ لا ترجُّها أهوال المجازر وحروب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني أينما كان مكانياً، كما لا يضير ذائقتها المُفتَقدة محو عمران ومدن بطائرات الموت الصهيونية، ولا يشحذ “إيمانها” أي حس بنصرة ذوي القربى في مخيمات البؤس المكتظة بأهلها في غزة ولا حتى أي شعور بالحساب والعقاب (كما يؤمنون). أمةٌ ضائعة ما بين أن تبقى كيفما كان، أو ستبقى كيفما كان، وكانت، وستكون.

***

أما بعد، كما قبل، والآن، إنها أمة مُنقادة نحو اللاشيء واللامحدد! تستعين بأغطية مستوردة، مصنوعة على عجل في دوائر الخارج وعواصم القرار، فيزداد انكشاف مساحات العري في كرامتها، وفي تلعثم التكرار واللغو من كلامها، وفي تجمعات كُتل اللحوم المتراصة للاحتجاج. احتجاج لا يُقنع الحجج والتبريرات، كما الاحتمالات.

لكنها غزة. غزة المُقيمة في دمائها، والنازفة من فجرها إلى مغيب شمسها، وفي اسوداد ظلمة لياليها، تصمد ولا تصمت، تتكوّر على معاناتها، وما تلبث أن تفاجئ الخاملين في كرامتهم المهدورة، وتهزّ العالم بالأطراف المبتورة لحديثي الولادة بقصف طائرات الموت الصهيونية. غزة التي أجبرت العالم يوم 7 أكتوبر على إعادة النظر في السرديات، وطرحت على الجميع سؤال القِيَم والأخلاق؟

***    

حديثاً، صدر للقس الإنجيلي سهيل سعود كتابٌ جديدٌ يُضاف إلى مؤلفاته السابقة والزاخرة بمضامينها (وأهمها كتاب “القدس في الفكر المسيحي”- دار منهل الحياة وفيه ينفي وجود هيكل سليمان بالمعنى الحجري المادي لأن وجود السيد المسيح تجاوز هذا المعنى وصار للهيكل المعنى اللاهوتي السماوي).

هذا الكتاب الجديد يحمل عنوان “قِيَمٌ للحياة” (صادر عن شركة سباركل لفصل الألوان) ويطرح فيه الكاتب مسائل القيم الإنسانية وتطبيقاتها بين البشر، فيُعرّج على غياب “إجماع بين الفلاسفة حول تعريف موحّد لمعنى القيم”، وإن كانوا يعتقدون بأن القيم عالمية في طبيعتها، هي نفسها في كل العالم، ولا تنحصر في أمكنة معيّنة، بل تتجاوز كل حدود وزمان ومكان. هذه القيم هي: الحنان، المحبة، الغفران، المسؤولية، المصداقية، المواظبة، الصبر، الشجاعة، العدالة، البساطة، والسلام وغيرها..

***

أين هذه القيم تجاه غزة المقيمة في دمائها والنازفة على وقع أعداد ضحاياها من المدنيين جرّاء حرب الإبادة الصهيونية بحق ناسها؟ متى يكون للقيم قيمتها الحقيقية؟ ما معنى القيم؟ وخاصة الدينية منها، وبالأخص لأهل “الأمة التي أخرجت للناس”؟ كيف لهذا العالم أن أصيب بالخرس دفعة واحدة: قاتل متمرس بالقتل، داعمين/فرحين بهذا القاتل، وساكتين/متواطئين مع هذا القاتل، وعاجزين/مرغمين على السكوت والتفرُّج، واللامبالين بكل القيم، والمزورين لتفسيراتها الانسانية. عالم من عدمية، وانطفاء المعنى، وانعدام الحس الانساني. بالروح وبالدم تفتدي غزة الأمة التي أخرجت للناس والتي لطالما هتفت منذ أكثر من سبعة عقود لفلسطين، ولم تخرج بعد نصرة لدماء غزة. لولا قلة من مقاومين شرفاء ألهبوا الساحات نصرة وسنداً ودعماً بالشهداء، وثبات المواقف في الميدان والأيام والليالي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ماذا بقي من الحضارة الغربية؟
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إنها الحرب.. ألم تكشف المتصهينين بيننا؟