حماس و”اليوم التالي”: العودة للجذور.. “نتحكّم.. ولا نحكُم”

مع تعثر مفاوضات هدنة رمضان واحتمالية أن يلجأ بنيامين نتنياهو المأزوم داخلياً وخارجياً إلى اجتياح رفح، وربما القيام بعملية عسكرية في جنوب لبنان، تختلط الأوراق في المنطقة على اعتبار أن مصير الحرب بات مجهولاً في أيدي مجموعة متطرفين في إسرائيل، يتبارون على حجم الإجرام والمجازر.

ثمة أمر أساسي في مستقبل الشرق الأوسط، وهو الصورة المتخيلة لـ”اليوم التالي” في قطاع غزة المحاصر الذي يخوض أشرس معركة في العصر الحديث، فلكل الأطراف الفاعلة في الإقليم نظرة مختلفة لهذا اليوم التالي عقب انتهاء معركة غزة، علماً أن حكومة الحرب الإسرائيلية تتخيل غزة بلا ناس وفصائل، لا بل تدفع باتجاه التهجير القسري عن غزة.

كان لافتاً للإنتباه أن إدارة جو بايدن هي أول من تحدث عن “اليوم التالي” الذي يعقب المعارك من دون وجود “كتائب القسام” (الذراع العسكرية لحماس)، فيما تُقرّ واشنطن أنه يصعب القضاء على حماس كفكرة ومشروع سياسي في وجدان الفلسطينيين على اعتبار أنها امتداد لمدرسة ايديولوجية راسخة، لذا وجب التعاطي مع من أسمتهم بـ”المعتدلين في حماس” ودمجهم في مشروع حل الدولتين المستقبلي!

المنطقة أمام حماس جديدة – قديمة، بالعودة تنظيمياً لمرحلة مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وقائدها عبد العزيز الرنتيسي، عنوانها الفعلي “حماس الدعوة والجهاد” والتخلي عن السلطة، وخاصة أن أمام الحركة مادة خصبة لإعادة انتشار فكري في مجتمع غزّاوي سيُخرّج جيلاً أكثر رغبة بالثأر والتمسك بالأرض

أما العرب فينقسمون في الرأي حيال “اليوم التالي”، وفقاً لأجندات الدول ومصالحها:

أولاً؛ السعودية: عبّر موقفها عن لا مبالاة في التعاطي مع الملف، فيما تفضل المملكة البدء من نقطة “إنهاء حماس” والذهاب نحو خيارات أقل تكلفة في السياسة والمال والأمن، بالتوازي مع انسجامها الكلي الرافض لوجود “الإخوان المسلمين” في أي قطر عربي.

ثانياً؛ دولة الإمارات: تنتظر لحظة النهاية لتبني موقفها المُركب بين التعامل مع حماس ولو مواربة أو الاندماج الكلي بمشروع التماهي الكلي بعلاقتها مع إسرائيل، على اعتبار أنها تعمل وفق مسارين، اذا بقيت حماس فإن رجلها الأول محمد دحلان قد فتح كوة في الجدار من خلال علاقته المفتوحة مع حماس الداخل والخارج، واذا ما خرجت حماس من المعادلة فإنها جاهزة لتكوين السلطة مع المجتمع الدولي.

ثالثاً؛ مصر: هي الدولة الأكثر تضرراً من أي سيناريو محتمل، لا هي قادرة على تقبل فوز وانتصار حماس خوفاً من انسحاب الأمر على الواقع المصري، ولا هي جاهزة لمشروع التهجير وإنهاء حماس، بكون الجارة الغزاوية هي مبرر لحضور مصر في القضية الفلسطينية.

رابعاً؛ قطر: تحتضن إمارة قطر قيادات الخارج في حركة حماس وتنظر بعين الريبة للمسارات الجاري تكوينها، في ظل حملات ممنهجة يشنها اللوبي الصهيوني على الدوحة، وكذلك لا تفضل قطر إنهاء حماس، لكن الحل الأمثل يكمن في ترتيب حماس بيتها الداخلي وتغيير سريع في البنية السياسية لتصبح أكثر تعايشاً مع تحولات المنطقة غداة “طوفان الأقصى”.

خامساً؛ الإتحاد الأوروبي: يبقى الإتحاد مشدوداً أكثر إلى الحرب الأوكرانية ونتائجها الكارثية في اتجاهات عدة أبرزها أمن الطاقة، وفي الوقت نفسه، يبدي الإتحاد إهتماماً بتداعيات “طوفان الأقصى” على الملاحة الدولية ولا سيما ممر البحر الأحمر الواقع تحت سيطرة الحوثيين منذ بداية هذه الحرب، لذا، يحيل الإتحاد هذا الملف برمته إلى واشنطن ولندن لمتابعة تبعاته، لكن الحل الأمثل للجميع هو التخلص من حماس مع الرفض المبدئي لمشروع التهجير، خوفاً من ردة فعل قاسية من مجموعات العمل الحقوقية والإنسانية وانتفاء دور أوروبا كبوابة للحريات والقيم المثلى.

حماس.. و”اليوم التالي”

لكن السؤال الأكثر غياباً عن نقاشات النخب السياسية والأكاديمية وهو رأي حركة حماس نفسها بـ”اليوم التالي” ومستقبلها، والدوافع الكامنة وراء هذه الحرب وهل كانت متوقعة النتائج وما هي خططها البديلة في ظل توافق كوني على تحييدها من المشهد الفلسطيني ودفنها تحت رمال غزة المتحركة.

وهنا يمكن العودة لمسارات حرب تموز/يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل، واللافت للإنتباه حينها أن الحزب وعقب العملية بساعة واحدة، خرج أمينه العام السيد حسن نصرالله لإعلان أهداف العملية: تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، نقطة انتهى، أي بالمختصر كان حزب الله واضحاً في دوافع إدخال لبنان في حرب الـ33 يوماً، فيما لم يلحظ حتى الآن أي طرف دولي أو إقليمي أي هدف معلن وعملي للعملية، بدليل أن كل الأطراف الفاعلة التي تواصلت مع حماس بعد “طوفان الأقصى” كان جواب قيادتها “أمهلونا 48 ساعة لإبلاغكم بسقف مطالبنا”، ما يعني حصول انفصال واضح المعالم بين أمر العمليات في الداخل وبين المكتب السياسي في الخارج.

اليوم ومع دخول معركة “طوفان الأقصى” شهرها السادس وعلى أبواب شهر رمضان وفي ظل كل ما يحكى عن معركة متخيلة في رفح، يمكن تلخيص موقف حماس من “اليوم التالي” لوقف العدوان والحرب من خلال ثلاثة سياقات سياسية وميدانية لا لبس فيها:

أولاً؛ أن حماس، وفي سياق خطاب قادتها وكوادرها التعبوي والسياسي والديني والثقافي، ركّزت على سردية أساسية وهي أن الجهاز العسكري بكل ألويته وقدراته وأعضائه ما يزال في حالة من الصمود والقوة ولم يخسر سوى قدراً قليلاً من قدراته، وهذا تغيير جذري في مفهوم المقاومات الوطنية، وهو أن الشعب حمى المقاومة بدمه وصموده وتحمله لكل فاتورة الحرب، وليس العكس، ما يعني بشكل واضح أن انتصار حماس ليس في إضعاف الكيان الإسرائيلي فحسب، بل في صمود “كتائب القسام” في المعركة، ما يعني انقلاب الأدوار بين المقاومة والشعب.

عودة حماس إلى ما قبل الـ2007، أي تشكيل حكومة تكنوقراط تشبه بمهامها حكومات حسان دياب ونجيب ميقاتي في لبنان، تدير الملفات المعيشية من إعمار وتأمين الغذاء والدواء والتعليم، فيما تعود الحركة لموقعها الطبيعي كمقاومة تُمسك بقرار السلم والحرب، أي باختصار “لكم فوق الأرض ولي تحت الأرض”

ثانياً؛ منذ اندلاع الصراع الداخلي الذي انتهى بإبعاد حركة فتح عن الشراكة الوطنية في غزة، وتفرد حماس بإدارة القطاع المحاصر لأسباب معلومة ومجهولة، كان هذا المسار بداية لظهور تباين في المواقف بين حماس الخارج وحماس الداخل أولاً، وبين حماس وايران نفسها، لأن مفهوم المقاومات من حزب الله إلى أنصار الله في اليمن وصولاً للحشد الشعبي في العراق، كان قائماً على فكرة “المقاومة تتحكم ولا تحكم”، لكن قرار محمد الضيف وأحمد الجعبري (اغتيل في خريف 2012) بإغلاق الهواتف وتنفيذ الحسم العسكري ضمن أجهزة أمن فتح، أضاف تغييراً جديداً في المفهوم، وهو أن المقاومة باتت محكومة بمعادلة الحكم للحفاظ على السلاح والمشروع والحضور السياسي، ما ألقى أثقال غزة المالية والإقتصادية والإجتماعية على حماس وحدها، وباتت مسؤولة عن إطعام الناس ودفع مرتبات الموظفين وتأمين الوقود والطحين ومواد البناء، إضافة لتكوين البنية العسكرية، وهذا الأمر جعل حماس تدفع ثمناً باهظاً بعد أن وضعت نفسها أمام امتحانات صعبة، تحتاج لتنازلات وطنية لرمي هذه الأثقال.

إقرأ على موقع 180  منتدی التعاون الإيراني ـ الخليجي.. مشروع طموح ولكن!

ثالثاً؛ يمكن تشريح أهداف “طوفان الأقصى” بمجموعة من المستهدفات الظاهرة، أهمها وضع ملف القدس على طاولة النقاش وخاصة إذا ما انفجرت الأوضاع في شهر رمضان بالضفة الغربية والقدس وما يمكن أن تفرضه من وقائع، وكذلك فتح ملف الاسرى على مصراعيه وتحقيق صفقة عادلة لإخراج عدد كبير من المعتقلين لدى إسرائيل، والأهم من كل ذلك عودة حماس إلى ما قبل الـ2007 في السياسة والمجتمع، أي تشكيل حكومة تكنوقراط تشبه بمهامها حكومات حسان دياب ونجيب ميقاتي في لبنان، تدير الملفات المعيشية من إعمار وتأمين الغذاء والدواء والتعليم، فيما تعود الحركة لموقعها الطبيعي كمقاومة تُمسك بقرار السلم والحرب، أي باختصار “لكم فوق الأرض ولي تحت الأرض”.

وعليه فإن المنطقة أمام حماس جديدة – قديمة، بالعودة تنظيمياً لمرحلة مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وقائدها عبد العزيز الرنتيسي، عنوانها الفعلي “حماس الدعوة والجهاد” والتخلي عن السلطة، وخاصة أن أمام الحركة مادة خصبة لإعادة انتشار فكري في مجتمع غزّاوي سيُخرّج جيلاً أكثر رغبة بالثأر والتمسك بالأرض، فيما حماس الخارج ستجد نفسها أمام مرحلة تنطوي على معوقات عدة، أهمها أن كل جهود التوسع والأطر المفتوحة والعلاقات الخارجية ستصطدم بنظرة بطل شعبي فلسطيني جديد اسمه “يحيى السنوار”.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "الترانسفير" ورقة إسرائيل المُستترة.. كيف تتصرف القاهرة؟