إنتخابات تصفية الحسابات.. هزيمة مُذلة لإردوغان!

للمرّة الأولى منذ أكثر من عقدين من الزّمن، يمكن رؤية الإبتسامة الواسعة على وجوه قادة حزب الشعب الجمهوري في تركيا؛ ابتسامةَ من استطاع تحقيق نصره الإنتخابي الأكبر منذ عقود عديدة، تحديدًا منذ العام 1977. في المقابل، فإنّ تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية، تلقى هزيمة غير مسبوقة منذ دخوله الساحة السياسيّة التركيّة؛ هزيمة يُمكن القول إنّها مذلّة بكلّ ما للكلمة من معنى.

كان من المتوقع، كما أشارت استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات الأحد المحلية، أن يحافظ حزب الشعب على البلديات الثلاث الكبرى: إسطنبول، أنقرة وإزمير، لكن ما لم يكن متوقعًا، هو أن يهزم حزب الشعب خصمه حزب العدالة والتنمية في معظم البلديات التركية منفردًا ومن دون تحالفاتٍ أو تنازلاتٍ، كما حدث في الإنتخابات الرئاسية في العام الماضي.

العقاب الإنتخابي

عاملان رئيسيّان حملا حزب العدالة والتنمية على أكتاف الجمهور لأكثر من عقدين؛ الأوّل، “معجزته” الإقتصادية، وهذه، بالمناسبة، لم تكن نتاج جهده فقط وإن كان هو الأساس، إنّما جاءت ثمرة الإصلاحات المالية والضريبيّة التي زرعتها آخر حكومات الراحل بولنت أجاويد. الثاني، هو انبعاث الرّوح الإسلامية التي حمل لواءها حزب العدالة وقائده رجب طيب إردوغان، وتصديهم لريادة العالم الإسلامي، حتى بات بعض الإعلام العربي والإسلامي والأجنبي يُطلق على إردوغان لقب “خليفة المسلمين”، ويرى فيه انبعاث “محمدّ الفاتح” الجديد.

سجلت هذه الإنتخابات نهاية قدرة إردوغان على المناورة السياسية، وتعويض الأداء بالخطابات الشعبويّة والعاطفيّة، وأصبح أمام وقائع جديدة، إمّا أن يذهب نحو موائمة أدائه مع خطابه، أو أنّ نزيفه الشعبي سيستمر. فمثلًا خسارة إسطنبول التي قاد حملتها الإنتخابيّة بنفسه، هي في الحقيقة خسارة شخصية له، قبل أن تكون خسارة لحزبه

لنبدأ من العامل الإقتصادي. لا داعي لتكرار ما أنجزه حزب العدالة والتنمية في الإقتصاد والبنية التحتية والإستقرار النقدي خاصة في السنوات العشر الأولى من حكمه، ما رفعه إلى المرتبة الأولى في كلّ الإستحقاقات الإنتخابية دون منازع. لكن منذ العام 2014 بدأ التراجع النسبي (قياسًا للمستجد وليس لما قبل العدالة والتنمية) في الأداء الإقتصادي، ومعه تراجع شعبية العدالة والتنمية، ثم دخلت البلاد التي صوتت لمصلحة تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، كما أراد الحزب الحاكم عام 2017، في دوامة جديدة من التضخم وانهيار العملة، وخلال السبع سنوات الماضية، كانت البلاد تعيش نوعًا من التخبط في الأداء الإقتصادي، بلغ أوجه قبل عدّة سنوات حين أعلن إردوغان الحرب على رفع الفائدة، مُسخرًا الدّين والقرآن لمصلحة حملته، فأزاح حينها وزير ماليته الحالي محمد شيمشك، ليعود وينقلب بشكل كامل على سياسته النقدية السابقة وعلى كلّ خطبه الدينيّة التي حارب بها الرّبا، وليعيد الوزير الذي أقاله، ثم يُطلق العنان لرفع الفائدة حيث تخطت الخمسين بالمئة وتحرير العملة فتعاظم التضخم الذي بلغ خلال سنة واحدة حوالي 67%، ما خلق هوّة واسعة على الصعيد الطبقي، حيث تصدّرت تركيا خلال العام الماضي على سبيل المثال، قائمة عدد الأثرياء في العالم بنسبة 9.7%، متقدمة بذلك على الولايات المتحدة الأمريكيّة، فيما كشف معهد الإحصاء التركي (TÜİK) أن هناك 17 من كل 100 شخص في تركيا تحت خط الفقر المدقع، وأن معدل الفقر الدائم ارتفع 0.20 نقطة في نهاية العام 2023 مقارنة بالعام السابق إلى 14%. أضف إلى أنّ التوسّع العسكري وفتح خطوط الإنتاج العسكري له ضريبته الماديّة أيضًا، لأنّه بطبيعة الحال سيُسحب من حساب خطوط إنتاج رئيسيّة أخرى. كما أنّ الزلزال الذي ضرب البلاد في مطلع العام الماضي احتاج دورةٍ من الشهور لتتضح نتائجه وآثاره، إقتصاديًا وسياسيًا.

العامل الثاني هو الخطاب الديني الشعبوي الذي جذب المحافظين والإسلاميين داخل تركيا. هؤلاء كانوا يأملون بأن تتحوّل خطابات إردوغان إلى حقيقة ووقائع على الأرض. لكن على مرّ السنوات الماضية، كان خطاب الرئيس التركي في مكان، وأداؤه السياسي في مكان آخر. فمثلًا كان شعار انتخابات إسطنبول الماضية “انتخاب أكرم إمام أوغلو يعني السيسي”، أمّا اليوم فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو أخٌ وصديقٌ للرئيس إردوغان. أمّا الكيان الإسرائيلي، ففي ذروة الخلاف معه، كان مسار التبادل الإقتصادي معه يتضاعف عدة مرات، مع ذلك، بقيت الكتلة المحافظة والإسلاميّة وفيّة له، إلى أن جاءت حرب غزّة الأخيرة، فقتلت قدرة إردوغان على المناورة.

ومن العوامل الحاسمة التي أضعفت حزب العدالة، تراجع الكتلة الإسلاميّة عن دعمه، ولا سيما حزب الرّفاه الجديد بقيادة فاتح أربكان، الرجل الذي أخطأ إردوغان في تقدير قوّته على السحب من رصيده، خاصة حين جعل شرطه الوحيد لسحب جميع مرشحي الرفاه المنافسين لحزب العدالة والتنمية إيقاف أو تقييد العلاقات الإقتصادية والتجاريّة مع الكيان الإسرائيلي، حيث صرّح حرفيًا قبل أسبوع مخاطبًا تحالف الجمهور: “ما يجعلكم تخسرون (الإنتخابات البلدية) هو استمرار التجارة مع إسرائيل”، ليعود ويُكرّر بعد ظهور النتائج النتخابية الأوليّة: “أسباب خسارتهم (العدالة والتنمية) هي الديون والفوائد والإقتصاد الضريبي، واستمرار التجارة مع القتلة الصهاينة الإسرائيليين، وموافقتهم على انضمام السويد التي تحتضن حزب العمال الكردستاني إلى الناتو”.

 النتائج الأولية

على صعيد النتائج، فقد سجلت هذه الإنتخابات أدنى مشاركة شعبيّة منذ حوالي النصف قرن، أما على صعيد توزع القوى، فقد حصل العدالة والتنمية على 35،6% يوم أمس مقابل 44،3% في الإنتخابات الماضية، أمّا حزب الشعب الجمهوري فقد تقدّم من 30،1% إلى 37،6%، في حين شكل حزب الرفاه الجديد مفاجأة هذه الإنتخابات بحصوله على 6،1% من الأصوات بأوّل إنتخابات بلدية له، متقدمًا بذلك على حزب اليسار الأخضر (الكردي)، والحزب القومي والحزب الجيد اللذين سجلا تراجعًا غير متوقع (هذه النتائج شبه نهائية بانتظار صدورها بشكل رسمي).

إقرأ على موقع 180  تقارب دمشق وأنقرة.. فرصة الدولة السورية الواحدة بمشاركة الجميع

بالنسبة لنتائج المدن الكبرى، فقد حصل حزب الشعب على 15 بلدية كبرى أهمها إسطنبول وأنقرة وإزمير والتي تمثل معًا حوالي 30% من عدد الناخبين، مقابل 11 بلدية لحزب العدالة والتنمية، مع تطور مهم على صعيد بلدتي أنقرة وإسطنبول، وهو الفوز بالمجلس البلدي للمدينتين إلى جانب رئاستيهما، وهذا يعني الفوز بغالبية البلديات الصغرى ضمن دائرة البلدية الكبرى. إضافة إلى رمزية خسارة الحزب الحاكم بلدية إسكودار في إسطنبول حيث مسقط رأس ومحل اقتراع إردوغان.

على صعيد وسط الأناضول الذي كان يُعدّ معقلًا لحزب العدالة والتنمية أوّلًا وحليفه الحزب القومي ثانيًا، فقد استطاع حزب الشعب اختراق معقل خصومه، مما يدل على مستوى الإحجام وتراجع دعم المحافظين والإسلاميين لتحالف الجمهور، مقابل تقدم وصعود حزب الشعب الجمهوري.

أمّا التقدم الوحيد الذي سجّله حزب العدالة والتنمية فكان في محافظة هاتاي (لواء الإسكندرون المعروف بغالبيته العربيّة) التي تعدّ معقلًا للعلمانيّة، حيث استطاع انتزاعها وبفارقٍ ضئيلٍ جدًا من قبضة حزب الشعب.

صحيحٌ أنّ حزب العدالة والتنمية بقيادة إردوغان شهد أقسى وأشدّ هزيمة له منذ تأسيسه، لكن في المقابل، يجب الإعتراف ورفع القبّعة لمن قاد بلاده نحو الخيار الديموقراطي بكل سلاسة وهدوء، وطوى بشكلٍ كبير عصر الإنقلابات العسكرية

المشهد الجديد

صحيح أنّ الإنتخابات المحلية ليس بإمكانها قلب المشهد السياسي العام في تركيا، لكنّها سترخي بظلالها عليه، وستؤسّس لحقبةٍ جديدة من مراحل الصراع السياسي الداخلي، قد تدفع باتجاه إنتخاباتٍ رئاسيّة مبكرة، خاصّة مع التحوّل الكبير في موازين القوى الشعبيّة.

وفي ما يلي عينة سريعة لأبرز نتائج هذه الإنتخابات:

أولًا؛ كبح قدرة حزب العدالة والتنمية على اتخاذ قرارات أو إجراءات كبيرة على صعيد البلاد، مثل تغيير الدستور أو حتى تعديله، خاصة بما يضمن حقّ ترشح إردوغان لولاية رئاسية جديدة، إذ يبدو من التهوّر المغامرة باستفتاء من المرجّح جدًا أن تسجل نتيجته هزيمةً جديدة لحزب العدالة والتنمية.

ثانيًا؛ فوز إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول بفارقٍ مريح يرفع من حظوظه كي يكون المرشّح الرئاسي المقبل للمعارضة على صعيد تركيا.

ثالثًا؛ أظهرت الانتخابات واقعاً سياسيًا على مستوى الأحزاب، إذ سجلت تراجع الأحزاب القومية على رأسها الحزب القومي وحزب الجيد الذي تتجه رئيسته ميرال أكشينار نحو الإستقالة خاصة بعد ثبوت سوء خياراتها الإنتخابية، في حين تحوّل حزب الرفاه الجديد إلى نجم الأحزاب السياسيّة الصاعدة.

رابعًا؛ أثبتت النتائج أن هزيمة المعارضة في الإنتخابات الرئاسية في العام الماضي ترتبط بإدارة المعركة، وليس بسبب قوّة خصمها، الذي عرف كيف يستغل نقاط ضعف معارضيه لينتزع منهم فوزًا بشقّ الأنفس بعد جولةٍ انتخابية ثانية.

خامسًا؛ سجلت هذه الإنتخابات نهاية قدرة إردوغان على المناورة السياسية، وتعويض الأداء بالخطابات الشعبويّة والعاطفيّة، وأصبح أمام وقائع جديدة، إمّا أن يذهب نحو موائمة أدائه مع خطابه، أو أنّ نزيفه الشعبي سيستمر. فمثلًا خسارة إسطنبول التي قاد حملتها الإنتخابيّة بنفسه، هي في الحقيقة خسارة شخصية له، قبل أن تكون خسارة لحزبه، كذلك الأمر على صعيد البلاد ككل، إذ اعترف في خطاب المصارحة أمس بعد ظهور النتائج، أنّه زار 52 مدينة “خلال الحملة الإنتخابيّة، لكنّ النتيجة كانت كما رأينا”، ما دفعه للقول “سنقيّم النتائج بقلبٍ مفتوح وسنجري محاسبة داخلية”.

سادسًا؛ بيّنت النتائج أنّ حزب الشعب الجمهوري كان بحاجة للتغيير على الصعيد الداخلي أوّلًا، قبل أن يخوض معركة التغيير على صعيد البلاد. فبعد أقلّ من عام، بدا أكثر قوّة وانسجامًا مع نفسه وجمهوره، فلم يضطر إلى تقديم تنازلات وجوائز ترضية لأحزاب أخرى.

سابعًا؛ باتت الديموقراطية أكثر ثباتًا ورسوخًا في النظام السياسي التركي، وأصبحت الوسيلة الشرعية الوحيدة للتغيير على مستوى إدارة البلاد وتبادل السلطة.

في الختام، صحيحٌ أنّ حزب العدالة والتنمية بقيادة إردوغان شهد أقسى وأشدّ هزيمة له منذ تأسيسه، لكن في المقابل، يجب الإعتراف ورفع القبّعة لمن قاد بلاده نحو الخيار الديموقراطي بكل سلاسة وهدوء، وطوى بشكلٍ كبير عصر الإنقلابات العسكرية، وآخر فصولها تلك المحاولة الإنقلابية التي ارتدت على منفذيها، الداخليين والخارجيين، في صيف العام 2016.

(*) راجع المقالة بعنوان: رئيس تركيا.. أكثر من هزيمة وأقل من انقلاب

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ما بعد الإنتخابات المحلية.. التغيير التركي آتٍ