نعوم تشومسكي: الماركسية والفوضوية في آن معاً (2)

قد تبدو عملية جمع الماركسية والفوضوية تحت عنوان واحد كما فعلت أنا (تشومسكي) خيالية الآن، نظراً للعداء المتبادل عبر القرن الماضي بين الماركسيين والفوضويين. بدءاً من العداء بين (كارل) ماركس و (فريدريك) إنجلز من ناحية، ومن ناحية أخرى كمثال، ما بين (بيير جوزيف) برودون و(ميخائيل) باكونين خلال القرن التاسع عشر.

على الأقل فيما يتعلق باختلافهم البارز بشأن مسألة الدولة، ولكن بمعنى ما، فقد كان الخلاف تكتيكياً. فقد كان الفوضويون مقتنعين بأن الرأسمالية والدولة يجب أن يتم تدميرهما معاً.

عبّر فريدريك إنجلز في العام 1883 عن معارضته لهذه الفكرة قائلاً الآتي: “لقد قلب الفوضويون الأمر رأساً على عقب، فهم يعلنون أن الثورة البروليتارية لا بد وأن تبدأ بالتخلص من تنظيم الدولة السياسي، لكن تدميرها في مثل هذه اللحظة يكون بمثابة تدمير الكيان الوحيد الذي يمكن للبروليتاريا المتغلبة أن تؤكد سلطتها المكتسبة حديثاً من خلالها، وقمع أعداءها، والقيام بالثورة الاقتصادية للمجتمع، التي بدونها يصبح مآل النصر بكامله هزيمة جديدة ومجزرة جماعية للعمال تماثل تلك التي ارتكبت إثر كومونة باريس”.

أعتقد أنه من العدل أن نقول بأن كومونة باريس مثّلت بالفعل أفكار الليبرتارية الاشتراكية للفوضوية إن شئت القول، وقد كتب عنها كارل ماركس بحماسة شديدة. في حقيقة الأمر، لقد دفعته تجربة الكومونة إلى تعديل مفهومه بشأن الدور الذي تلعبه الدولة. مثلما نرى كمثال، حينما ننظر لمقدمة بيان الحزب الشيوعي، والإضافة عليها التي نشرت في عام 1872، وعلى تناوله (ماركس) منظوراً أكثر فوضوية لطبيعة الثورة الاجتماعية.

لقد أغرقت الكومونة بالطبع في الدماء، مثلما تم تدمير الكومونات الفوضوية في إسبانيا على أيدي الفاشيين والجيوش الشيوعية. ويمكن القول بأن المزيد من الهياكل الديكتاتورية كانت ستدافع عن الثورة ضد مثل هذه القوى. ولكنني أشك في ذلك بشدة، على الأقل في حالة إسبانيا. يبدو لي أن سياسة ليبرتارية أكثر تماسكاً كان يمكنها توفير الدفاع الممكن الوحيد عن الثورة.

بالتأكيد يمكن الطعن في ذلك، وهذه قصة طويلة لا أريد الخوض فيها هنا. من الواضح أن من يفعل ذلك سيكون ساذجاً إذا راجعنا أحداث نصف القرن المنصرم. فالفشل قي رؤية الحقيقة في تحذيرات (ميخائيل) باكونين المتكررة، بأن البيروقراطية الحمراء سوف تثبت أنها الكذبة الأكثر دناءة وفظاعة في هذا القرن.

لقد قال (باكونين) ذات مرة، خذ الثائر الأكثر راديكالية وضعه على عرش روسيا بأكملها، كما قال في 1870، أو اعطه سلطة ديكتاتورية، وقبل أن تمر سنة واحدة، سيتحول إلى شخص أسوأ من القيصر نفسه. أخشى في هذا الصدد، أن (ميخائيل) باكونين كان شديد الإدراك، وأن هذا التحذير قد تم إعلانه مراراً من جانب اليسار.

على سبيل المثال، الفوضوي الليبرتاري فرناند بيلوتييه تساءل في تسعينيات القرن التاسع عشر، هل يجب حتى على الدولة الانتقالية التي يجب علينا أن نخضع لها، أن تكون بالضرورة الحتمية سجناً جماعياً شمولياً؟ هل لا يمكنها أن تساعد من خلال مؤسسة حرة يحدها فقط احتياجات الإنتاج والاستهلاك نتيجة لاختفاء كل المؤسسات السياسية؟

أنا لا أتظاهر بمعرفة الإجابة على هذا التساؤل، لكني أعتقد أنه من الواضح إلى حد مقبول أنه ما لم تكن الإجابة عليه بالإيجاب، فإن فرص الثورة الديموقراطية الحقة في تحقيق المثل الإنسانية اليسارية هي ربما ضئيلة. أعتقد أن مارتن بوبر عبّر عن هذه المشكلة بشكل موجز عندما قال: لا يمكن لواحدنا بطبيعة الحال أن يتوقع من شجيرة صغيرة تم تحويلها إلى هراوة، أن تنبت أوراقاً.

حصراً لهذا السبب، من الضروري وجود حركة ثورية قوية بالولايات المتحدة، إذا أريد وجود أية احتمالات منطقية لشكل أصولي من التغيير الديموقراطي الاجتماعي في ظل عالم رأسمالي. وأعتقد أن مثل هذه الملاحظات تنطبق أيضاً على الإمبراطورية الروسية.

وقد شدد (فلاديمير إيليتش) لينين على هذه الفكرة حتى النهاية، وأنا هنا اقتبس منه قوله: بأنها حقيقة أولية للماركسية، أن انتصار الاشتراكية يتطلب الجهد المشترك للعمال في عدة دول متقدمة. على أقل تقدير، فإن الأمر يتطلب أن يتم إعاقة التدخل المضاد للثورة في المراكز الكبرى للإمبريالية العالمية بالضغط المحلي. وهذه الاحتماليات فقط هي التي ستسمح لأية ثورة بالتخلص من مؤسسات الدولة القمعية الخاصة بها، أثناء محاولتها وضع الاقتصاد تحت السيطرة الديموقراطية المباشرة.

لقد ذكرت حتى الآن نقطتي إشارة لمناقشة الدولة، ألا وهما الليبرالية الكلاسيكية والليبرتارية الاشتراكية، وهما تتفقان على أن أدوار الدولة تعد قمعية، وأن نطاق عمل الدولة يجب أن يكون محدوداً.

يصر الليبرتاري الاشتراكي على أن سلطة الدولة يجب أن تباد لصالح التنظيم الديموقراطي للمجتمع الصناعي، بتحكم شعبي مباشر في كل المؤسسات، يمارسه هؤلاء الذين يشاركون وكذلك من يتأثرون بشكل مباشر بممارسات هذه المؤسسات.

إذن يستطيع واحدنا تخيل نظام من مجالس العمل، مجالس المستهلكين، الجمعيات البلدية، الاتحادات الإقليمية، وهكذا. بهذا الشكل من التمثيل المباشر القابل للسحب، بمعنى أن الممثلين مسؤولون مباشرة ومرجعيتهم تستند بشكل مباشر للكتلة الاجتماعية المتكاملة والمحددة بشكل واضح التي يتحدثون باسمها أمام نوع من المنظمات ذات المستوى الأعلى، وهو الشيء الذي يختلف بشدة مع نظام التمثيل الذي نعيش فيه.

إقرأ على موقع 180  مفاجأة سبينوزا.. هل نحنُ "مُخيَّرون" حقّاً؟ (١)

هنا، لنا أن نتساءل إذا ما كان مثل هذا البناء الاجتماعي قابل للتنفيذ في مجتمع معقد وعالي التقنية. هناك حجج مضادة، وأظن أنها تقع تحت تصنيفين رئيسيين. التصنيف الأول هو أن مثل هذه المؤسسة تخالف الطبيعة البشرية، بينما التصنيف الثاني تقريباً يقول بأنها غير متسقة مع متطلبات الكفاءة، وأود هنا أن أناقش كلا التصنيفين بإيجاز.

لننظر إلى التصنيف الأول، القائل بأن المجتمع الحر هو مضاد للطبيعة البشرية، الذي كثيراً ما يطرح التساؤل، هل يريد الإنسان الحرية حقاً؟ هل يريد الأفراد المسئولية التي تصاحب الحرية؟ أم أنهم يفضلون أن يحكموا على يد سيد طيب؟ دائماً ما تمسك المدافعون عن التوزيع الحالي للسلطة بنسخة أو بأخرى من فكرة العبد السعيد.

منذ 200 عام، أدان (جون جاك) روسو السياسيين السفسطائيين والمفكرين الذين بحثوا عن طرق لإخفاء حقيقة أن الملكية الأساسية والمعرِفة للإنسان هي الحرية. فهم ينسبون للإنسان نزعة طبيعية للعبودية دون أن يفكروا في أن ما ينطبق على الحرية هو ذاته ما ينطبق على البراءة والفضيلة. فقيمتهما لا يشعر بها طالما تمتع بهما الفرد، وأن مذاقهما ينعدم بمجرد أن يفقدهما.

كدليل على هذه العقيدة، يشير (روسو) إلى العجائب التي تقوم بها كل الشعوب الحرة بهدف حماية أنفسها من القمع. صحيح، كما يقول (روسو)، بأن أولئك الذين تخلوا عن حياة الشخص الحر لا يفعلون شيئاً سوى التباهي المستمر باستقرار السلام والراحة التي يتمتعون بها في قيد أغلالهم. لكنني حينما أرى الآخر يضحي بالمتع، الراحة، الثروة والسلطة والحياة نفسها من أجل حماية هذه الروح الخيّرة، والتي يُنظر لها بامتعاض من قِبل أولئك الذين فقدوها.

حينما أرى جموع من الهمج العراة يحتقرون الشهوانية الأوروبية، ويحتملون الجوع، النار، السيف والموت من أجل الحفاظ فقط على استقلالهم، أشعر بأنه لا  ينبغي للعبيد (يقصد لا ينبغي إلا للأحرار) أن يفكروا في الحرية. تعليق ربما نجد له تفسيراً معاصراً.

بعد ذلك بأربعين عاماً، عبر (إيمانويل) كانط عن أفكار مشابهة. فقال إنه لا يستطيع قبول الطرح القائل بأن بعض الناس ليسوا مناسبين للحرية، مثل الخدم لأحد الأسياد. وكتب (كانط) أنه إن قَبِل واحدنا بمثل هذه الافتراض، فإن الحرية لن تتحقق أبداً، لأن الفرد لا يمكنه الوصول إلى مرحلة نضج الحربة من دون أن يكون قد اكتسبها بالفعل.


(*) راجع الجزء الأول: نعوم تشومسكي: بناء مجتمع ليبرتاري اشتراكي! (1)

(**) اقرأ النص الأصلي الكامل بالإنجليزية لخطبة نعوم تشومسكي بعنوان “الحكومة في المستقبل” عبر الرابط التالي:

https://chomsky.info/government-in-the-future

(***) الجزء الثالث والأخير بعنوان: تشومسكي: الدولة ما بين الحرية، الاستبداد والكفاءة 

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مفاجأة سبينوزا.. هل نحنُ "مُخيَّرون" حقّاً؟ (١)