كانت انتخابات 1997 واحدة من أكبر صدمات الانتخابات الرئاسية في إيران، التي، باستثناء القليل منها، لطالما كانت حبلى بالمفاجآت. هي ربما المساحة الأنسب لرجال الشأن العام والسياسة لاختبار حضورهم على المستوى الشعبي ومقبوليتهم في عيون مؤسسة الحكم. هكذا صعد خاتمي من النخب الوسطى ليصبح رئيسا للجمهورية، ولاحقا زعيما للتيار الإصلاحي، وبعدها معارضا على حافة سقف النظام.
بعد خاتمي جاء محمود أحمدي نجاد الذي ارتقى السلّم من عمدة طهران ليصبح نموذجا للرئيس “الثوري الولائي حتى النخاع”، وبعدها تدريجيًا خلع عباءة الولاء ليتحول إلى معارض ساخط يتحين كل فرصة للعودة إلى الواجهة، وأيضًا، تحت حافة سقف النظام.
خاتمي واحمدي نجاد نموذجان متناقضان لتيارين يتنافسان في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية الاستثنائية. ومنذ المرحلة التي كان الرجلان فيها في الحكم وحتى تموز/يوليو 2024، طرأت على بنية التيارين تغييرات كبيرة جعلت منهما تيارات متعددة تحت مظلات هوياتية واسعة تغطي فروقات تتسع بين كل استحقاق انتخابي وآخر. وقد تجلت هذه الفروقات أكثر في المعسكر الأصولي الذي خاضت رموزه وتشكيلاته السياسية منافسات انتخابية شرسة على مدى السنوات الماضية، ولا سيما في الانتحابات الرئاسية ومن قبلها البرلمانية. لعل ذلك مرده إلى القبول الذي يحظى به التيار في قلب النظام وذلك لتطابق اتجاهاته وقرب شخصياته من مؤسسات القرار، بينما يصارع التيار الاصلاحي للحفاظ على بقائه، ولتأمين مرور الحد الأدنى من مرشحيه أو المتحالفين معه إلى الاستحقاقات السياسية الكبرى.
ربما هذا ما قد يقدم بعض التفسير للتباين في نتائج الدورة الأولى، والتي عكست أرقامها اتجاهات غير متوقعة، ولا سيما لجهة تراجع نسب التصويت بشكل عام، وفوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان بأكثر من عشرة ملايين صوت برغم المشاركة الإصلاحية المحدودة مقابل ما مجموعه 13 مليون صوت للمرشحين الأصوليين، سعيد جليلي ومحمد باقر قاليباف. بالمقارنة مع انتخابات الرئاسة الأخيرة التي شهدت فوز الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي عام 2021، خسر الأصوليون من أصواتهم في الانتخابات الحالية نحو 9 ملايين صوت. ففي 2021 حصل رئيسي على 18 مليونا، تلاه مرشح أصولي آخر هو محسن رضائي بما يزيد قليلا عن 3 ملايين صوت، ومليون آخر لأمير حسين قاضي زاده، أي ما مجموعه 22 مليون صوت لهذا المعسكر.
في المقابل، لم يحظ المرشح المحسوب على الإصلاحيين في العام 2021، أي عبد الناصر همتي، بأكثر من مليونين ونصف المليون صوت، دون تبنٍّ من التيار وفي ظل مقاطعة واسعة، كان التصويت بأوراق بيضاء أحد أبرز أشكالها، إذ غطى ذلك نحو 13 في المئة من الأصوات.
بالعودة إلى انتخابات 2024 في جولتها الأولى، فإنها تعكس بشكل واضح عمق الفجوة بين النظام وقطاعات متعددة من الشعب، وتتخطى نسبتها نصف السكان. كما أنها تسلط الضوء على عجز التيار الإصلاحي عن تعبئة القطاعات التي كان يؤثر فيها سابقا نتيجة للانفصال الناشئ بينه وبين من كانوا يتأثرون بأفكاره، ولعل ذلك مرده لغياب المشروع والقيادة وأيضا للإحباطات والضربات المتعددة التي تلقاها المعسكر، والتي أفقدته القدرة على لعب دور الجسر بين النظام والمجتمع المدني. أما مفاجأة المفاجآت فكانت انكفاء جزء من القاعدة الشعبية الأصولية عن التصويت، ما انعكس تراجعا مزدوجا في نسب الاقتراع والتصويت لمرشحي “جبهة الثورة”، ولذلك كشفت هذه الدورة الانتخابية عن حالة من غياب الأغلبية السياسية الحاسمة في المشهد الانتخابي وربّما أكثر.
الأهم، هو أن هذه الانتخابات شكلت بداية مرحلة ما بعد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، الذي كان يمثل حتى لحظة حادثة تحطم المروحية مشروعا استراتيجيا للنظام. هذا المشروع نجح إلى حد ما في جمع قطاعات واسعة من الأصوليين على خيار موحد. إلا أن الرحيل المفاجئ خلط الأوراق وأعاد جميع من كان منضويا تحت مظلة المشروع إلى ولاءاتهم السابقة، ولذلك تموضع العديد من أعضاء حكومة رئيسي تحت مظلة جليلي (رئيس حملته هو المساعد التنفيذي للرئيس الراحل). هذا التموضع أكّد المؤكد، بأن جبهة “بايداري” هي الوحيدة الجاهزة في المعسكر الثوري على استيعاب فريق الرئيس الراحل ومتابعة الطريق، لكن بعنوان مختلف عن ذلك الذي كان يمثله المشروع خلال حياة الرئيس لما بعد الرئاسة، أي لخلافة القائد الأعلى، كما يُقال في بعض العلن وبعض الكواليس.
ومع غياب رئيسي اختلطت الأوراق مجددا، إلا أن عناصر عديدة على المستويات الداخلية والخارجية جعلت النظام يتعامل مع التحدي بكثير من الثقة إلى حد فاجأ الجميع بقبول ترشيح الإصلاحي بزشكيان للرئاسة، بعدما كانت قمة الطموح قبول مجلس صيانة الدستور طلب ترشح شخصية أصولية معتدلة، كعلي لاريجاني.
هكذا وضع الشارع أمام تحدي الاختيار، ولكنه في الجولة الأولى انكفأ بنسبة قياسية ما دفع القائد الأعلى خامنئي للإشارة إلى شح المشاركة بشكل أقل من التوقعات والتقديرات، داعيا المختصين لدراسة الأسباب حيث قال:
“الأمر المسلم به أن من يعتقد أن هؤلاء الذي لم يقترعوا هم معارضين للنظام مخطئ جدا، وهذا الفهم خاطئ بالمطلق، البعض لم يعجبه مسؤول ما، وبعض آخر لا يعجبه النظام، ولا نقول انهم غير موجودين، بل موجودون ويعبرون عن رأيهم بحرية ونعلم ما يقولون وليسوا خافين عن الأعين، يخالفون أصل النظام الاسلامي، لكن وضع كل من لم يشارك في الانتخابات ضمن هذا التصنيف هو خطأ كبيرلدينا بعد يوم غد انتخابات مهمة جداً، والجولة الأولى لم تشهد مشاركة كما كان متوقعاً، لقد كانت أقل من التوقعات والتقديرات، ولهذا الأمر أسباب يجب أن يدرسها المختصون في علم الاجتماع، لكن الأمر المسلم به أن من يعتقد ان هؤلاء الذي لم يقترعوا هم معارضين للنظام فأنهم مخطئون جداً، وهذا الفهم خاطئ بالمطلق، البعض لم يعجبه مسؤول ما، وبعض آخر لا يعجبه النظام، ولا نقول انهم غير موجودين بل موجودين ويعبرون عن رأيهم بحرية ونعلم ما يقولون وليسوا خفيين عن الأعين، يخالفون أصل النظام الاسلامي، لكن وضع كل من لم يشارك في الانتخابات ضمن هذا التصنيف هو خطأ كبير”.
الموافقة على ترشيح بزشكيان في مواجهة التيار المحسوب على قوى الثورة “بايداري” وممثله جليلي فضلًا عن جناح آخر من الأصوليين تمثل بقاليباف، رآها متابعون بأنها محاولة لإعادة ضخ الدماء السياسية في الشارع الإيراني وتلافي ما جرى في دورتي انتخابات البرلمان السابقتين، فضلًا عن انتخابات الرئاسة السابقة، من انخفاض مستويات المشاركة الشعبية.
في الارقام، بلغ إجمالي الناخبين المشاركين في الجولة الأولى 24 مليونا ونصف المليون صوت، حصل منها بزشكيان على ما نسبته 42.45%، فيما حصل جليلي على 38.61% منها. كما بلغت الأصوات الباطلة 1,056,159 صوتًا بنسبة 4.31%.
تقدّم بزشكيان في 16 محافظة على رأسها أذربيجان الشرقية والغربية وكردستان وسيستان وبلوتشستان وإيلام فضلًا عن كرمانشاه، لكن في الوقت ذاته، كان التقدم لجليلي في 15 محافظة من بينها محافظات ذات كتل تصويتية كبيرة وبعضها له مزاج إصلاحي مثل سمنان وأصفهان ويزد إلى جانب خراسان الجنوبية والرضوية وكرمان.
مستوى المشاركة كان متدنيًا مقارنةً بالدورات الانتخابية السابقة، وقد يُعزى ذلك إلى عدم إجراء انتخابات المجالس البلدية والمحلية بالتزامن مع الرئاسية، وهو العرف القائم منذ انتخابات 2013 كأحد تبعات انتخابات 2009 المثيرة للجدل. لكن الأسباب التي تحول دون مشاركة الناخب الإيراني متعددةً، فهناك قطاع من المجتمع يرى أن الحكومة غير قادرة على تحقيق مطالبه، وقطاع ثانٍ يرى أن السلطة وإن كانت تستطيع التغيير، والرئيس نفسه عازم على ذلك، سيُعاق عمله ومن ثمَّ لن يحقق مطالبه. لكن القطاع الأكبر الممتنع عن التصويت، يردّ امتناعه للأحداث السياسية المتتالية التي أرهقت المواطن بمشاكل اقتصادية واجتماعية لا تبدو حلولها ممكنة باستخدام النمط السياسي الاداري السائد.
لماذا جليلي وليس قاليباف؟
راهن كثيرون في بداية السباق الرئاسي على تقدم كبير وربما فوز من الجولة الأولى لقاليباف. لكن ما حدث كشف عن نوع من الاهتزاز في خيارات الناخب الأصولي، الذي أعطى رئيس البرلمان في الانتخابات الرئاسية 2013 التي فاز بها حسن روحاني 6 مليون و77 ألف و292 صوت بنسبة 16.55% من إجمالي عدد الأصوات. هذه الكتلة التصويتية وصلت في انتخابات البرلمان 2020 إلى مليون و265 ألف و287 صوتاً. وبالتالي، بدا واضحا أن قاليباف يفتقد إلى القاعدة الجماهيرية الثابتة التي تمكنه من الوصول إلى الرئاسة بدون حشد ودعم تنظيمي.
هذا الحشد استفاد منه جليلي ليحل ثانيًا بعد بزشكيان، وتجلى في تصدره محافظات كانت محسوبة على التيار الإصلاحي مثل أصفهان ويزد وسمنان. وقد تمثل العنوان البارز لحملة جليلي باستكمال طريق رئيسي ومناصرة الكادحين والمحرومين فضلًا عن القرويين – وهو نفس توجَّه أحمدي نجاد – مدعومًا بحكومة الظلَّ التي شكلها منذ حكومة روحاني الأولى في 2013.
وبينما الإسقاطات تستمر، بين تشبيه جليلي بأحمدي نجاد وبزشكيان بروحاني، تتزايد الاسئلة حول أسلوب النظام والحرس الثوري في التعامل مع مرشحين من خارج السياق الطبيعي، والأهم، وجود اتجاهين سياسيين يصعب السيطرة عليهما ولديهما القدرة والشعبية والجموح للتغريد المنفرد.
لكن السؤال هنا هو: هل ستقبل مؤسسات الدولة العميقة، وعلى رأسها الحرس الثوري، بأن يصبح جليلي رئيسًا، في ظل تيار يسيطر على المراكز الرئيسية للسلطة في البلاد؟ في الوقت نفسه، كم تحتمل إيران انقساما داخل مؤسسات الحكم في حال فوز بزشكيان وحلفائه في الانتخابات.. وما مدى قدرة الاستحقاق الحالي على تأمين جسر رئيسي سلس نحو مشهد أكبر مقبل داخليًا وخارجيًا، عاجلًا أو آجلًا؟
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“