طوفاننا الحالي (الأقصى)، هو الأكثر تعبيراً عن واقع موضوعي مرتبط بقضية عدالتها بائنة لا لبس فيها؛ قرنٌ ونيّفٌ من الزمان مرّ منذ أن وهبت إمبريالية غربية، متحكمة بالعالم وبشمسه التي لا تغيب عن إمبراطورتيها، أرضاً هي لشعب متجذر فيها، ووهبتها لمستجلبين من أربع جهات الأرض كي يُقيموا موطنهم الموعود عليها، والذي هو ليس إلّا ذلك الموقع المتقدم لإمبرياليات تحكّمت بالعالم حتى يومنا هذا، وإن بأسماء ودول مختلفة.
كان المشروع واضحاً منذ بدايته؛ منع إقامة نظم سياسية خارج الحظيرة السياسية والاقتصادية لمنطق العولمة المتحكمة بآلياتها المتنوعة، والتي قدّمت نموذجها كأفق وحيد أمام البشرية. فالمقاومة الفلسطينية تخوض اليوم معركة الدفاع عمّا تبقى من فلسطين، والتي ضاقت مساحتها حدّ الاختناق. هي معركة “عادلة” يخوضها الشعب الفلسطيني، وبهذا المعنى ومهما كانت نهاياتها، ستُسجل للمقاومة الفلسطينية كحدث كبير له تداعيات، إن بطبيعة الحرب أو بنتائجها أو حجم الاصطفافات من حولها.
إن الحرب الدائرة حالياً على أرض فلسطين، بجغرافيتها المنقسمة بين حدّين وسلطتين ونهجين، تُمثّل النموذج الواضح لعالم اليوم، والذي تُسيّره “إمبراطورية الشر” التي ما انفكت تجلب الويلات والحروب والقتل والظلم والنهب المنظّم.. وتمتهن الكذب والدجل، متسلحة بعدة، قوامها أساطيل ودول ومؤسسات دولية وعدالة مغيبة ومُصادرة وشعوب غارقة.. في كذبة الديموقراطية والعالم الحر.
لقد ضاعت القيّم واختلّت منذ أن أصبحت سمات مرور بيد منظومة متحكمة بالبشرية، التبست معها المفاهيم فأصبح “العالم الحر” صفة تُطلق على عالم الغرب الاستعماري مترادفة بتوصيفها له كواحة للحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. هي إذن معركة عادلة تخوضها فلسطين ومقاومتها، وهي كذلك مع كل من ساند وقاتل وقدم تضحيات، وهي كذلك مع كل من نزل الشوارع في كل دول العالم متضامنا هاتفاً بحرية فلسطين ملوحاً بعلمها، الذي أصبح زينة الجامعات وشهادات تخرج طلابها؛ هي بهذا المعنى، ومع الوضوح الخالي من الالتباس والغموض والمنزّه عن كل أشكال الاستخدام والاستغلال، حرب عادلة بحجم الدم الذي سقط في غزة والضفة والقدس وأراضي 48 ولبنان وسوريا والعراق واليمن وفي كل ساحة أقامت الحجة على أنظمتها وفضحتها بالتخاذل والتواطؤ مع العدوان وتغطيته.
المقتلة
هي مقتلة مفتوحة، حرب عالمية بكل مواصفاتها مندلعة حالياً على جغرافية تضيق ولا تتسع لساكنيها. دول كبرى تمثل إمبرياليات متوحشة، تاريخها سفك دماء وحاضرها كذلك. دول إقليمية فاعلة في محيطها، تشحذ سكاكين مصالحها لتذبَح جوعاً وحصاراً. لم تنفع أواصر القربى ولا حق الجيرة ولا أخوّة اللسان والمصير والمسار. يشهدون بالباطل وينكرون. لم يتجرؤوا على قول “لا”. شعب مقتول في يومياته، في صحته، في مصيره، في مستقبله. هو الشعب الوحيد في العالم الذي سُرقت أرضه منه فضاعت بين المصطلحات، فتمسك بالحلم والإرادة المتوارثة مع مفاتيح “الدور” وبقية حلم بفلسطين من بحرها إلى نهرها.
المقاومة الفلسطينية تخوض اليوم معركة الدفاع عمّا تبقى من فلسطين، والتي ضاقت مساحتها حدّ الاختناق. هي معركة “عادلة” يخوضها الشعب الفلسطيني، وبهذا المعنى ومهما كانت نهاياتها، ستُسجل للمقاومة الفلسطينية كحدث كبير له تداعيات، إن بطبيعة الحرب أو بنتائجها أو حجم الاصطفافات من حولها
هي المقاومة من “شعب الجبّارين”؛ هي المقاومة من شعب الجائعين والمقتولين والمشردين. يومياتهم متشابهة القتل فيها مستعر. أيامهم متتالية يعدّون فيها شهداءهم وجرحاهم وأسراهم. حلم الحرية يحوم فوق رؤوسهم التي تُظلّلها السماء المحجوبة بالطائرات الحربية. يحملون سلاحهم ويتنقلون بين البيوت المهدّمة كعصافير الحقول؛ بشرٌ من لحم ودم ومشاعر، قلوبهم تنبض وصراخهم يعلو مهللين لقنص صهيوني، يرقصون على إيقاع قذائفهم وهي تصهر فولاذ جبروت الاحتلال ومن معه من دول استعمارية فاشية وقاتلة ونظم إقليمية متواطئة وساكتة، لا تشهد بالحق بل تستثمر به، ودول تحكي اللغة نفسها لكن صامتة، لا تجمعها كلمة سواء على القضايا بل تجمعهم القمم الطارئة وموائد الطعام وتمويل القاتل وتصمت صمت القبور.
هم قلّة من فقراء العرب، هم قلة من شعوب وقوى وقفت حيث يجب أن تكون، فساندت وآزرت وقدمت ما ملكته أيمانهم من قوة وبأس، فكانوا إلى جانب شعوبهم نصيراً لأنفسهم قبل أن يكونوا لفلسطين. دورة الدماء تعاود يومياتها على مدار الأيام، لا هدنة ولا استراحة فمطحنة الأرواح تدور رحاها غير آبهة بمن تفتك.
الصمتُ مريبٌ، الصمتُ مشاركةٌ، الصمتُ موقفٌ، الصمتُ عارٌ.. ومع ذلك، تدور الدائرة ولا من يوقفها. أن تغضب فهذا أمر مشروع، لكن ما نفع ذلك؟ أن تحتج أيضاً مسموح شرط أن لا تُقلق حاكماً أو تزعجه. أن تسكت فهذا جلّ ما يريدون فلا حاجة إلى إيقاظ الموتى من كراسي عروشهم وحكم دولهم. هي المأثرة الواقفة على باب التاريخ لكن الحائرة في أي اتجاه ستذهب؟ هي مقتلة مفتوحة منذ زمن بعيد، تتغير أشكالها لكن جوهرها واحد؛ تصفية قضية عادلة ومحقّة ومستحقة لمصلحة سلام موهوم كي تسود سياسات اللهو المفتعل.
اليوم التالي
إن السؤال حول “اليوم التالي” مطلوب الإجابة عنه قبل انجلاء غبار المواجهة. لقد راكمت الشعوب العربية، وعلى مدار عمر النكبة والاحتلال، تجارب وانجازات وخيبات ودُفعت دموع ودماء.. وعلى مستويات متنوعة. وكان جلّ تلك النتائج يذهب هدراً أو يُصرف في صناديق الأنظمة وبعض الخارج. لم تستفد النخب العربية التي حكمت في أواسط القرن الماضي وما تلاه من مسار التحرر الوطني والاجتماعي من موروثات الاستعمار الخارجي ومن سطوة البرجوازيات الوطنية، التي شكّلت الغطاء الداخلي للمشاريع الخارجية، بل وقعت تلك الأنظمة في فخ المسارات المتناقضة بين طبيعتها وطبيعة الموقف المطلوب اتخاذه؛ فالتأميم هو لمصلحة الشعوب وليس أداة بيد النظام. كسر الهيمنة هو كسر أصحاب رأس المال المستورد، سواء من دول أو مؤسسات، والتي كانت تضع الشروط التي تثبت مبدأ الهيمنة وتمنع الشعوب من ممارسة سيادتها على مقدراتها.
تم وضع منطقة شاسعة في قلب العالم في مهب النظم الهجينة والسياسات المهيمنة والنخب المستحضرة من منابت عائلية أو دينية أو اجتماعية، نمت في ظل القوى المهيمنة وتربت على خدمة مصالحها، فكانت جاهزة دوماً لوراثة أي منعطف شعبي أو حركة سياسية طالبت بالتحرر وكسر الهيمنة وفك التبعية، لتصبح هذه القضايا عناوين لقوى وجماعات مرتبطة، تأخذ المصطلح فقط وتعطيه المضمون المعاكس. لقد وقعت النخب في فخ التوارث وسوء الفهم لطبيعة الصراع فالتبست الاتجاهات. لذا، لا يُمكن المراهنة على قوى اجتماعية متناسلة من سلالات حكمت البلاد من خلال النظم التي كانت سائدة عبر التاريخ، والتي أعطتها الحق في تقرير شكل النظام، وجاء الخارج كي يؤمن الحماية ويصنع السلطة التي تؤمن المصالح وتمنع التغيير الجذري في السيرورة والمنطلقات.
لقد نمت الحالات البرجوازية الوطنية كتقاطع بين الامتداد التاريخي، العائلي أو الوظيفي، فأخذت لنفسها شرعية التحدث باسم الجميع، وأنها صاحبة الحق في الحكم، مستندة على الموروث الاجتماعي والديني والحماية الخارجية، وهذا الثالوث هو من ثبت دعائم كل النظم السياسية التي حكمت منطقتنا وأقامت السياسات التي لم تتخط مرحلة تنفيذ الأجندات. الدين، الطائفة والمذهب، استُجلبوا إلى حلبة الصراع الداخلي، فأصبحوا من متممات الحياة السياسية ولاحقاً أساسها، وعندما تبدلت طبيعة الصراعات من حروب للتحرر بقوى تحمل الهمّ نفسه إلى أخرى أصبح الانتماء العرقي والاثني والطائفي هو المحرك وهو الأساس لكل المعالجات والمقاربات. إن أكثرية القوى التي من تلك الطبيعة تجنح دوماً نحو المساومة، لتحفظ “الشراكة” و”التنوع” المرتبطين بالانتماء الديني أو العرقي، وتقديمهما كأساس للمقاربة ولنسج نوعية العلاقة، والتي تكون متممة أو مرتبطة بطبيعة النظام ومهمته. إن أكثرية دول المنطقة المولودة من عباءة “سايكس بيكو” كانت إمّا طائفية أو عائلية، وبذلك أصبحت الوصايات هي السائدة.
أمام الذي يجري اليوم في المنطقة، وأمام كل تلك التضحيات الكبيرة والغالية، التي يدفعها شعبنا الفلسطيني وبقية شعوب المنطقة، الواقعة في عين المشروع المتبدل لإمبرياليات غربية، وأمام حجم التضحيات المدفوعة من الشعوب؛ هل ستُشكل الطبيعة الطائفية أو المذهبية أو الدينية مجدداً “كعب أخيل”، لقتل الإنجاز المحقق بفضل المقاومة والإرادة الواضحة في المواجهة لدى أكثرية شعوبنا، بحجة الشراكة أو الواقعية.. أو استلام السلطة أو المشاركة فيها؟
(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة بعنوان: من “الوعد” إلى “الطوفان”.. التكوين المُلتبس للقضية (1)