معنى أن تكون مهنياً في زمن الحروب

خلال مقابلات أجريتها مع العديد من الصحافيين اللبنانيين والمصريين الذين التقيتهم لغايات بحثية منذ العام 2016، لفت انتباهي تشديدهم على أنه من أجل الوصول إلى صحافة أخلاقية لا بد من الالتزام بالمعايير المهنية، وأن الاخلاقيات الصحافية تُصان عندما يلتزم الصحافي/ة بمهنيته/ها؛ أي ثمة تماهٍ مُتفق عليه بين الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقيات الصحافية. 

عندما تسأَل هؤلاء الصحافيين، عن ماهية تلك المعايير تكون الإجابات سهلة: الموضوعية، عدم الانحياز، التوازن، الدقة، المصداقية، كشف الحقيقة إلى آخره… وعندما تسألهم عن تفسيرهم للموضوعية مثلاً، يأتي الجواب أن المقصود ليس الحياد بطبيعة الحال، وأن الدقة والمصداقية والركون إلى الوقائع كلها في صلب فهم هؤلاء الصحافيين والصحافيات لمعيار الموضوعية، وأن عدم الانحياز لا يستوي عندما تكون في قلب تغطية حرب إبادة أو جرائم بحق الإنسانية على غرار ما يجري في لبنان وفلسطين.

في سياقات كهذه، يصبح من غير المجدي ان نتمسك بالموضوعية، بما تعني من حياد مطلق عندما يكون الأمر متعلقاً بخرق القوانين والمعايير الإنسانية أثناء تغطية الحروب والنزاعات. بل الأجدى أن نتمسك بمعايير المصداقية والدقة وعرض الوقائع من دون مزايدات أو اجتزاء والبحث عن الحقيقة، وهذه كلها مجتمعة معايير أساسية في تغطية الحروب والنزاعات بحيث تصبح تسمية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بأسمائها فعلاً مهنياً بامتياز.

هذا هو تفسيرنا وهو ما يعني أن الموضوعية والحيادية بالمعنى الأنغلو-أميركي في تغطية جرائم الحرب ليستا انعكاساً لمهنية وإنما محاولة للهروب من تحمل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية.

الكثير من الصحافة الغربية وتحديداً الأنغلو-أميركية بتغطيتها للحرب على غزة ولبنان فقدت بوصلتها المهنية والأخلاقية. الصحافيون الفلسطينيون واللبنانيون في الميدان الذين يدفعون حياتهم ثمن نقل الخبر أصبحوا هم البوصلة في ما تسمى “صحافة الحروب” وما يُحدّد أخلاقياتها. هؤلاء يُعلموننا جميعاً يومياً معنى أن تكون مهنياً

ويصبح من الأهمية بمكان التأكيد على أن الموضوعية والحياد المطلقين مفهومان ليسا ذوَي أهمية عند تغطية حروب ومجازر بحق مدنيين وممتلكات مدنية أو بحق أي مظهر إنساني. لقد رأينا هذا جلياً عند تغطية الحرب في أوكرانيا في الإعلام الأنغلو-أميركي، وما زلنا نراه حتى الآن، بمعنى الانحياز لمصلحة طرف ضد آخر، بعناوين إنسانية وأخلاقية وليست سياسية!

ويصبح التوازن هنا أيضاً مدار مساءلة. ماذا يعني التوازن بين الجلاد والضحية؟ ماذا يعني التوازن عندما ترصد بالعين المجردة آلة حرب كاسرة تفتك بالمدنيين عشوائياً ومن دون تمييز سواء في حرب أوكرانيا أو غزة أم لبنان؟ وماذا يعني أن تستضيف الجاني وتسمح له بتقديم سرديته للأحداث من دون أية مساءلة؟

والمساءلة تبدأ عادة بالتحقق من المعلومات والسرديات التي تُبث أمام ملايين المشاهدين. نعم، لا بد من التحقق من مصداقيتها، لأن أحد أهم أسلحة الحروب هي الدعاية المُعزّزة بدفق من التهويل والأخبار الكاذبة أو الملفقة. ومن يرصد الدعاية الاسرائيلية في حربي غزة ولبنان يجد فيها الكثير من التلفيق لتبرير التفلت من القانون الدولي. هي سرديات مُكرّرة وتكاد تكون واحدة هنا وهناك.

إن عدم الإنحياز لا يعني بالضرورة، كما تعلّمنا وقرأنا، أن تُعطَى أطراف النزاع مساحات متساوية؛ عدم الانحياز في حالات الجرائم ضد الإنسانية الموثقة في القانون الدولي هو أن لا يصبح الصحافيون أو الصحافيات أدوت تبرير وتمرير معلومات غير دقيقة تحت غطاء ضرورة إعطاء المساحة نفسها للأطراف المتنازعة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما توصلت اليه “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي. بي. سي.) عند مراجعتها لتغطية التغيير المناخي وقرارها القاضي بالابتعاد عما أسمته “التوازن الخاطئ في إعطاء مساحات متساوية لمن يتنكرون لتأثير التغيير المناخي على التغيير الحراري والبيئي في العالم”. فهل يستوي التوازن الخاطئ على التغيير المناخي فقط؟

عند تغطية الحروب والنزاعات يصبح من الأهمية بمكان التركيز على الدقة، والمصداقية والوقائع والحس الإنساني في تغطية الأحداث. ويُصبح تدقيق المعلومات والشجاعة في تسمية الجرائم ومرتكبيها ومفاعيلها وسيلتنا كصحافيين للوصول إلى الحقيقة. على الصحافي أن يكون مسؤولاً أمام ضميره المهني والإنساني ثم أمام جمهوره، وهذه المسؤولية تقضي بعدم الانزلاق وراء الدعاية والأخبار الملفقة التي تُسهم بشكل أو بآخر في إيذاء وقتل الأبرياء. وعلى الصحافيين أثناء تغطية النزاعات والحروب أن يتسلحوا بما يتيسر لهم من تقنيات تساعدهم في التحقق من المعلومة والتدقيق فيها في عصرنا الرقمي قبل نشرها. وتقضي المهنية وأخلاقيات المهنة بعدم الانزلاق وراء حملات قلب الوقائع والتلفيق التي تُدار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

علينا أيضاً كصحافيين تجنب خطاب الكراهية. وقد عملت على تعزيز هذه النقطة والقناعة بها من خلال ورش عمل مع صحافيين لبنانيين ومصريين اتفقنا خلالها على مجموعة مبادئ، من بينها عدم الانجرار إلى شعبوية وسائل التواصل الاجتماعي والترويج لمدونة أو منشور ما يُمكن أن يُشكل إساءة أو سبباً للتحريض على العنف تجاه أشخاص أو مجموعات إلخ. ذلك أن الحروب والنزاعات ليست مجالاً للإثارة وتحصيل الشهرة؛ هناك أرواحٌ تُزهق وممتلكات بناها أصحابها بعرق سنين عمرهم تُدمّر؛ ثمة تاريخ يُدمّر وتراث يُمحى، وهذا ما يتطلب منا أن نكون على قدر المسؤولية المهنية والأخلاقية والإنسانية الملقاة على عاتقنا تجاه هؤلاء الضحايا.

مثلاً عند تغطية الحرب على لبنان نسمع بعض الصحافيين يُردّدون أن المناطق التي يتم قصفها وتهجير أهلها “يسكنها داعمون لهذا الحزب أو ذاك” أو أنها “معقل للحزب الفلاني” أو “ينشط فيها التيار الفلاني”. هنا أيضاً، ينبغي في أثناء تغطية النزاعات والحروب التدقيق في اللغة المستخدمة وتجنب التعميم الذي يُبرّر للمجرم إلحاق الضرر بالمدنيين

في حالات من هذا النوع، أن تكون مُنصفاً وعادلاً أفضل بكثير من أن تكون حيادياً. أنا هنا لا أدعي القول بعدم فائدة عدم الانحياز أو الموضوعية، ولكن لا بد لنا من تحديد فهمنا لعدم الانحياز وللموضوعية التي نبتغيها. وهنا بيت القصيد في فهم ما تقوم عليه مبادئنا وأخلاقياتنا الصحافية.

إقرأ على موقع 180  "الطوفان".. هل يتحول فوضى إقليمية؟

وهناك جانب مهم أثناء تغطية الحروب والنزاعات أود تناوله وهو ضرورة عدم الانجرار وراء تبرير الأذى وعدم المساهمة بسحب الصفة الإنسانية عن طرف دون الآخر بهدف إرضاء طرف لغايات سياسية.

هنا لا بد من الإشارة إلى إنّه إلى جانب الدقة يجب توخي عدم التعميم. مثلاً عند تغطية الحرب على لبنان نسمع بعض الصحافيين يُردّدون أن المناطق التي يتم قصفها وتهجير أهلها “يسكنها داعمون لهذا الحزب أو ذاك” أو أنها “معقل للحزب الفلاني” أو “ينشط فيها التيار الفلاني”. هنا أيضاً، ينبغي في أثناء تغطية النزاعات والحروب التدقيق في اللغة المستخدمة وتجنب التعميم الذي يُبرّر للمجرم إلحاق الضرر بالمدنيين.

في النزاعات والحروب علينا التسلح بالقانون الدولي الإنساني، حتى ولو كسره طرف من الأطراف بشكل مستمر، أو أنه أعطى عبر الأكاذيب تبريرات لعدم احترامه والتقيد به. هذا القانون الدولي ما يزال بوصلة تحمي مهنيتنا من التشهير وتمنع تدهور الثقة بها وبنا كصحافيين.

بعد كل هذا لا بد من القول إن الكثير من الصحافة الغربية وتحديداً الأنغلو-أميركية بتغطيتها للحرب على غزة ولبنان فقدت بوصلتها المهنية والأخلاقية. الصحافيون الفلسطينيون واللبنانيون في الميدان الذين يدفعون حياتهم ثمن نقل الخبر أصبحوا هم البوصلة في ما تسمى “صحافة الحروب” وما يُحدّد أخلاقياتها. هؤلاء يُعلموننا جميعاً يومياً معنى أن تكون مهنياً.

(*) محاضرة ألقيت في مؤتمر القاهرة السادس للإعلام الذي نظمته الجامعة الأميركية في القاهرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

Print Friendly, PDF & Email
زاهرة حرب

أستاذة في جامعة سيتي، بريطانيا

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  اتفاق الترسيم؛ أخطاء وخطايا وخفايا.. والآتي مجهول!