في بداية ما يُسمى “الربيع العربي”، كان ثمة انقسام غير ظاهر للعلن بين الذراعين العسكرية والسياسية لحركة حماس. الأول كان الأقرب إلى تيار المقاومة (إيران، سوريا، حزب الله، الحشد الشعبي وأنصار الله) والثاني كان منضوياً في الخطة الأميركية في المنطقة، مُنتظرًا حُصته من كعكة التسويات.
ومع انخراط روسيا في الأزمة السورية عام 2015، بدأت الكفة تميل لمصلحة “الجناح العسكري” في حماس، إذ اعتلى الشهيد يحيى السنوار رئاسة الحركة، وأخذ يُحجّم المكتب السياسي ومنطقه السياسي، فباتت حماس أقرب ما تكون إلى تيار المقاومة، وهنا أعلنتها الولايات المتحدة “حركة إرهابية”.
جاء زلزال 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكان الاعتقاد أنه هزَّ إسرائيل وحدها، لكن مع الوقت تبين أنه خلخل العديد من التوازنات في الإقليم. وما جرى في سوريا يوم الأحد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 يُعدُّ إجابة على أسئلة كثيرة تُطرح منذ لحظة 7 أكتوبر وما تزال بلا إجابة.
من الأسئلة التي لم نجد لها إجابة سريعة، دعوة الناطق باسم “كتائب القسّام” أبو عبيدة للأردنيين بالخروج إلى الشارع بعد شهر واحد فقط من “طوفان الأقصى”، واصفًا إياهم بكابوس الاحتلال، والملفت للإنتباه أن الشارع الأردني منذ اللحظة الأولى للسابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يترك الشارع، وكان من أبرز المتضامنين مع غزة ليس في الشعارات فقط بل في المقاطعة.
والمثير للشكوك أكثر في حينه، أنّه عندما حشّدت حماس الشارع الأردني في أواخر رمضان 2024، لم تكن هنالك أية “كروت” حقيقية بيد الأردن لدعم غزة، فالأردن منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023 طلب من السفير الإسرائيلي عدم العودة إلى الأردن إلا بعد وقف إطلاق النار في غزة، كما أنه لا حدود مشتركة بين الأردن وغزة ليضغط الشعب على الدولة لفتحها وتمرير المساعدات، وليس الأردن طرفاً في الوساطة ليكون في خروج الشعب وسيلة ضغط على الدولة في حال كانت تضغط على حماس، وهنالك مطلبٌ واحد منطقي وهو قطع الطريق البري الذي يوصل الخضار والفواكه لإسرائيل، وفعليًّا وإن تم ذلك سيتكفل تجار فلسطينيون لهم شركات في الأردن بمهمة إيصال الخضراوات والفواكه لإسرائيل (مع الإشارة إلى أن الحديث يدور عن وجود هؤلاء التجار في الضفة الغربية وشركات التصدير الخاصة بهم قائمة وتُزوّد الاحتلال بكل ما يلزم).
وهذه التطورات المتسارعة في المنطقة من لحظة 7 أكتوبر، ساهمت في تزخيم حركة الإخوان المسلمين التي كان تراجع وهجها في الشارع الأردني بُعيد العام 2015، وقاد ذلك إلى حصولها في الإنتخابات الأخيرة على 30 مقعداً في البرلمان الأردني، ما يعني أن حماس كانت تودّ رفع أسهم حركة الإخوان المسلمين الأردنية في الشارع الأردني.
يُمكن فهم موقف حماس من إعادة الزخم لحركة الإخوان المسلمين في الأردن في ضوء اجتياح المجموعات السورية المسلحة السريع للبلاد من حلب إلى دمشق بطريقة تشي بوجود صفقة عابرة للحدود ضحّت بنظام بشار الأسد، لاح معها في الأفق السوري شبح الإسلام السياسي، الذي ظنّ كثيرون أنه تمّ قبره في سوريا عام 2015!
ويكتمل المشهد عندما نرى بيان حركة حماس الذي يُبارك للشعب السوري نجاحه في تحقيق تطلعاته نحو الحرية والعدالة. تأتي مباركة حماس هذه وكأنها تهنئة لإسرائيل وحلفائها على قطع طُرُق إمداد السلاح لحزب الله عبر سوريا؛ حزب الله الذي دعم حماس واقتسم معها مخاطر مواجهة الاحتلال، وخسر أمينه العام السيد حسن نصرالله ورئيس مجلسه التنفيذي السيد هاشم صفي الدين وقيادات لا تحصى وأسلحة ومخازن سلاح في سبيل إسناد غزة وتخفيف الضغط عنها.
ترافقت عملية تسليم سوريا مع مفاوضات بين فتح وحماس لتنظيم عملية تسليم الحكم في غزة لسلطة مدنية، والواضح أن العدو أنهى مهمته في غزة، وانتقل إلى لبنان، وكان من الملفت للإنتباه أن لبنان كان عصيًّا على الكسر، فلم يجد العدو أسهل من سوريا المُنْهكة، كي يُقطّع أوصال تيار المقاومة ولا سيما قطع الإمدادات العسكرية (الأوكسيجين) عن حزب الله. وعلى ما يبدو وبعد إضعاف حماس المقاومة، ستقتسم حماس الإخوانية في غزة جزءًا من الكعكة كما تم التخطيط له.
وكأنّ المُنتظر في الأيام القادمة، بعد تقليم أظافر المقاومة، تنظيم أمور المنطقة، لكي يتسلم دونالد ترامب الحُكم والظرف مُهيأ لإعادة إطلاق مسار الاتفاقات الإبراهيمية في الشرق الأوسط.
ثمة مرونة أمنية وسياسية أردنية عالية في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، وثمة رعونة سياسية لدى الإخوان المسلمين في التعامل مع الدولة الأردنية. لكن هذه المرونة الأردنية المشهود لها ستخضع لاختبار حقيقي في ظل عودة مشروع الإسلام السياسي إلى المنطقة بعد تغيير النظام في سوريا
روسيا في المعادلة
تحمل روسيا مشروع عالم متعدد الأقطاب، تُدير عملية تشكيله هي والصين ببراغماتية عالية، فزمنُ الأيديولوجيات انتهى، وأعداء الأمس فعليًا قد يصبحون أصدقاءً اليوم أو بيادق في اليد. ولقد امتلكت روسيا خبرة ثمينة في إدارة السياسة في أفغانستان عبر التقارب مع حركة “طالبان”، ولديها خبرة واسعة في التعامل مع تنظيم “القاعدة”.
بل إن مركز المصالحة الروسية في حميميم أثناء اتفاقات “خفض التصعيد” انفتح على الجماعات السورية المسلحة التي انشق بعض أفرادها وتقاربوا مع الروس. لم يكن الروس مجرد جيش يحمي دمشق منذ عام 2015، بل دخلوا في كل التفاصيل العسكرية والسياسية في سوريا، ومن المؤكد أن روسيا ستُكرر اختبار تجربة التطبيع مع “طالبان” أفغانستان في “المختبر السوري”.
وثمة انطباع راسخ أن روسيا ضحّت ببشار الأسد، ولكن لا دلائل حقيقية على أنها تريد ترك المياه الدافئة، حتى إيران فإن لها أبوابًا قد تفتح مع المعارضة السورية، والإخوان المسلمون ليسوا بعيدين عن كل هذا واليوم يُعتبر التعاون مع الإخوان أكثر حماسةً من 2015، فتركيا منهكة إقتصاديًّا ولا يمكنها أن تُقدّم للإخوان ما كانت ستقدمه في العام 2015 لو نجح مشروع الاسلام السياسي في حينه.
الأردن.. والإخوان
ثمة مرونة أمنية وسياسية أردنية عالية في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، وثمة رعونة سياسية لدى الإخوان المسلمين في التعامل مع الدولة الأردنية. لكن هذه المرونة الأردنية المشهود لها ستخضع لاختبار حقيقي في ظل عودة مشروع الإسلام السياسي إلى المنطقة بعد تغيير النظام في سوريا.
إن خطر الإخوان المسلمين في العام 2011 كان مجرد شبحٍ مزّقته المصالح الروسية والإيرانية في المنطقة، لكن على مر السنوات الماضية بقي هذا التنظيم يُلملِم نفسه، إلى أن وقع 7 أكتوبر، فكانت حرب غزة وشرارة الحرب ضد حزب الله ومن ثم اسقاط النظام السوري. هذه الهزائم المتتالية لن يعترف أحد بها، فالناس التي رأت في سقوط سوريا بيد الجماعات المسلحة حرية، كيف ستنظر إلى كل ما جرى في غزة والضفة الغربية على أنه هزيمة في ظل تفتت محور المقاومة وتقهقره؟
وأما روسيا التي كانت ترى الإخوان المسلمين مجرد حركة إرهابية، فقد استقبلت العديد من شخصيات حماس، وبما أنها فتحت خطوط التواصل مع مسلحين من “القاعدة” في أفغانستان وسوريا، فما الذي يمنعها من فتح قنوات اتصال ثابتة وجدية مع الإخوان المسلمين في سوريا في ظل المتغيرات الحاصلة؟
ثمة فروق في الظروف بين العامين 2011 و2024. في العام 2011 تبدّت لحظة إخوانية غامرة في كل المنطقة، إذ بدأت الأزمة السورية وبعدها بأشهر تولى محمد مُرسي (ممثل الإخوان) الرئاسة في مصر، وكان انهيار النظام السوري في ذلك الحين يعني تمكُّن الإخوان المسلمين من حكم المنطقة بأسرها، وفق رؤية الخارجية الأميركية، لكن ذلك لم يحصل، ذلك أن الانقلاب العسكري في مصر على الاخوان شكّل نوعًا من الحماية للمنطقة مما يُسمى “الخطر الإخواني”، كما انه وقبل العام 2015 لم تكن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في كل من الإمارات والسعودية، كما أن الأردن تمكن من تقليم أظافر الإخوان المسلمين على مر هذه السنوات.
أما معطيات العام 2024 فتبدو مختلفة إقليميا ودولياً، بدليل توجه أنظار الدولة الأردنية، لا بل معظم الدول العربية نحو سوريا لمعرفة ما إذا كنا أمام محاولة جديدة لتعويم الإسلام السياسي الإخواني وما إذا كانت الشهية الإخوانية مفتوحة للإمساك بعواصم عربية جديدة وبالتالي العودة إلى أحلامهم القديمة ـ الجديدة أو أن هناك إرادة دولية وإقليمية بجعل الظاهرة الإخوانية مجرد ممر لتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد؟
إنّها جولة جديدة مع شكل تدين لم يعرفه الأجداد أبدًا وصنعته سياسات القرن العشرين.