“ويلٌ لأمة” لا تمتلك القوة.. لإثبات حقها!

لو علم يحيى السنوار بمآل "الطوفان"، هل كان ليُطلقه؟ هل كان فتح جبهة الإسناد من لبنان قرارًا صائبًا؟ هل كان الكيان ليُهاجم لبنان لولا فتح هذه "الجبهة"؟ هل انتصرنا أم انهزمنا؟ ماذا حلّ بمفهوم "وحدة الساحات"؟ وهل كان يمكن لإيران أن تتدخل لمنع ما وصلنا إليه في لبنان وفلسطين؟

لا ينبغي لهذه الأسئلة، على أهميتها ومشروعيتها، أن تحرف نظرنا عن أن القول الفصل في إثبات الحق أو إنكاره هو منطق القوة. فالواقع أن لبنان لم يكن قويًا بما فيه الكفاية لوضع حد للإبادة في غزة، ولا لردع العدو عن إبادة وتهجير اللبنانيين، ولا حتى للاستمرار ب”الإسناد” فيما تستمرّ الإبادة. ولو كان الواقع مختلفًا لكان الجواب على الأسئلة أعلاه مختلفًا، ولكانت حتى الأسئلة نفسها مختلفة وربما غير مطروحة. لذا فالسؤال الأهم هو: لماذا لم يمتلك لبنان القوة اللازمة والمناسبة لإسناد غزة ووقف الإبادة؟

الملفت للانتباه أن يأتي هذا في سياق سياسي انحداري. فعلى سبيل المثال، استطاع العدو في العام 2022 فرض اتفاق ترسيم الحدود البحرية إلى حد تنازل لبنان عن حقه بحقل كاريش وبنسبة يُحدّدها العدو من أرباح حقل قانا المحتمل، والأخطر أنه يعترف فيه بـحقوق إسرائيل. والمثير أن إيران المشغولة بمفاوضة الاستعمار رحّبت بهذا الاتفاق. كما أن حزب الله كان قد أعلن في مطلع العام الماضي أن القضية الفلسطينية كانت على وشك أن تُنسى وتُصفى قبل “طوفان الأقصى”. فلماذا لم نمتلك القوة لإثبات حقنا؟ يمكن استشفاف الجواب من “نبوءة” جبران خليل جبران: “ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع”.

نزيد على جبران: “وتحمل مما لا تصنع”. فعلى سبيل المثال، أجهزة “البايجر” واللاسلكي التي فخّخها العدو لم تكن لا صناعة لبنانية ولا شامية أو عربية، برغم نسبة المهندسين اللبنانيين المرتفعة جدًا (أعلى من نسبتهم في فرنسا والصين والولايات المتحدة، على سبيل المثال). لذا، لا يمكن فصل الخرق التقني-العسكري الذي حقّقه العدو عن غياب المشروع السياسي لحشد طاقات اللبنانيين في إطار مشروع مواجهة متكامل من ألفه إلى يائه.

ينطبق “حمل ما لم نصنع” أيضًا على تسليح الجيش اللبناني. فعجز الجيش عن لعب أي دور في صد العدوان على لبنان نتيجة حتمية لخيار زعماء الطوائف: أولًا، تسليح الجيش من الولايات المتحدة وإطعامه من ممالك وإمارات الخليج، عوض وضع ميزانية تحمّل هذا العبء المالي لمسببي الأزمة، أصحاب المصارف والقطاعات الريعية. كما يعود عجز الجيش لخيار زعماء الطوائف بعدم بناء اقتصاد منتج يشمل صناعة السلاح وطبعا الاستفادة من مقدرات اللبنانيين الابتكارية لتحقيق إنجاز ما في استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، كما حاولنا قبل عقود من الزمن أن نكون رياديين في صناعة الصواريخ.

بات من الملحّ أن تقرّ كل الأطراف أن قرار حصر مواجهة المشروع الصهيوني بالسلاح، وقرار تلزيم مهمة المقاومة إلى حزب، وقرار تبني منطق هوياتي ولائي من نوع الارتهان إلى إيران، كانت كُلّها قرارات خاطئة وباهظة الثمن، إذ حالت دون امتلاكنا القوة لإثبات حقنا في لبنان كما في فلسطين

وكان يجب على اللبنانيين تفعيل مجالات اقتصادية أخرى في سياق مواجهتهم للمشروع الصهيوني. فصناعة الإلكترونيات، على سبيل المثال، هي إحدى المكونات البارزة في الصناعة الإسرائيلية، والتي استخدمها العدو لبناء دولة واقتصاد له. حتى بات مقاطعو العدو “مضطرين” في بعض الحالات لدعمه في مجال الإلكترونيات بسبب غياب البدائل. فلمَ لم يختَر صناع القرار في لبنان الاستفادة من آلاف لا بل عشرات آلاف المهندسين اللبنانيين من خلال تطوير شبكة اجتماعية تمتاز بتغطية صحية وتعليم مجاني لإيقاف “هجرة الأدمغة”؟ هذا عدا، طبعاً، عن غياب أبسط مقومات الصمود: خطة إغاثة وخطة لإيواء النازحين وإقامة ملاجئ وشبكات كهربائية تحت الأرض!

كما أن لبنان، بلد يقع في “الهلال الخصيب”، غير أنه “يأكل مما لا يزرع”، إذ يستورد 80% من طعامه. وهذا ما يُسهّل على العدو فرض حصار بري وبحري وجوي عليه، والهدف أن يحدّ من استطاعة لبنان، شعبًا ومقاومةً، تشكيل خطر وجودي عليه. ولا شك أن هذا السيف المصلت على رقابنا، والذي لم يضطر العدو لاستخدامه، كان أحد عناصر عجزنا عن إيقاف الإبادة في غزة. وهذه ليست سوى بعض الأمثلة عن مجالات عجز لا- مشروع زعماء الطوائف في مواجهة العدو.

“ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف.. مقسمة إلى أجزاء”.

وهذا ما يقودنا إلى “ويل” آخر تنبّأ به جبران خليل جبران ونعاني منه اليوم، وهو ما يسمّى “ضعف الجبهة الداخلية”. فحالات العداء تستلزم وحدة مجتمعية. والوحدة المجتمعية لا يُؤتى بها بسحر ساحر بل هي نتاج تبني سياسات محددة. وقد تكون لحمة المجتمع أحد أهم ميزات “الدولة المدنية”، أي الدولة التي تعامل مجتمعها بصفته مكوّنًا من مواطنين، لا من طوائف.

استغلّ الاستعمار وجود الطوائف في لبنان فعزّز القبلية من خلال إخضاع التعداد والقيد والأعراف والمدارس والمستشفيات والزعماء لمنطق هوياتي عند “الاستقلال”. وهذا ما استغلّته بطبيعة الحال الدولة اليهودية فدعمت طوائف واستهدفت طوائف وسعت لتأسيس دولة مارونية أو دولة درزية، لإحداث شروخ مجتمعية تحول دون إمكانية المجتمع المستهدف لحشد طاقاته بوجهها.

نتحمل نحن مسؤولية “الويلات” التي ذقناها وسنذوقها ما لم نُعلن القطيعة مع المشروع المتجسد في “أمة تحمل مما لا تصنع ومقسمة إلى أجزاء”

حافظت الأطراف التي “ربحت” الحرب الأهلية على النظام الطائفي، بل صانته من خلال اتفاق الطائف، فأسّست لهدنة بين الطوائف لا لسلام بين المواطنين. ومن المؤسف أن حتى الطرف الذي ضحى بالغالي والنفيس لمواجهة الاحتلال فانتصر عليه ودحره في العام 2000، حافظ هو أيضًا على الصيغة التي أقامها الاستعمار والتي ارتضت الاحتلال. بل أصبح ركيزةً في نظام التفتيت المجتمعي إذ اختار أن يكون الحزب الإسلامي الشيعي الإثني عشري واعتبار الولي الفقيه إمامًا وقائدًا لنا عوض معاملة الجمهورية الإسلامية كما هي حقًا، أي كـ”خارج” يسعى لمصالحه لا لمصالح غيره. فالحزب الذي أعلن أن الحرب على ايران يعني الحرب على محور المقاومة ويعني ان كل المنطقة ستشتعل لم تقابله إيران بمعادلة أن الحرب عليه وعلى بلده هي حربٌ على المقاومة! لكن منطق الهويات والمحاور الذي فشل في جلب حلفاء لحماية لبنان نجح في تفتيت مجتمعه إذ أفسَح في المجال لاتهام حزب الله، حتى من حلفائه السابقين أمثال ميشال عون وصهره جبران باسيل، “بإقحام لبنان في حرب لا تعنيه”، ولمطالبة زعماء طوائف اخرى بالتطبيع والتقسيم إلخ..

إقرأ على موقع 180  ماركس، الماركسيون.. المتمركسون

وبعيدًا عن الاصطفافات الحالية وعن ضلال و/أو سخافة و/أو عمالة منتقدي مبدأ وفكرة المقاومة، وبعيدًا عن المزايدات الرخيصة، بات من الملحّ أن تقرّ كل الأطراف أن قرار حصر مواجهة المشروع الصهيوني بالسلاح، وقرار تلزيم مهمة المقاومة إلى حزب، وقرار تبني منطق هوياتي ولائي من نوع الارتهان إلى إيران، كانت كُلّها قرارات خاطئة وباهظة الثمن، إذ حالت دون امتلاكنا القوة لإثبات حقنا في لبنان كما في فلسطين.

طبعًا، يتحمّل العدو المسؤولية الكاملة عن احتلال جزء من أرضنا وانتهاك حدودنا يوميًا ومن ثم شن حرب إبادته علينا. لكننا نتحمل نحن مسؤولية “الويلات” التي ذقناها وسنذوقها ما لم نُعلن القطيعة مع المشروع المتجسد في “أمة تحمل مما لا تصنع ومقسمة إلى أجزاء”.

Print Friendly, PDF & Email
ألان علم الدين

مترجم وكاتب ومنسق في "مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة" ومناصر لـ"حركة مواطنون ومواطنات في دولة"، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  هل اخترع الفينيقيون الوطن والوطنية؟