المواطنة والحريّة.. هنا كرامة المجتمع السوري

استمرّت معاناة المجتمع السوري سنين طويلة. إنّ قدرته على التحمّل والصبر مُلفِتة للانتباه، مثله مثل مجتمعات بلاد الشام الأخرى في فلسطين ولبنان. لقد عانى السوريّون ضيق العيش وندرة سبل كسب الرزق لأسبابٍ تتعلّق بالعقوبات والتسلّط والصراع وأمراء الحرب على السواء. لكنّ ما زرع الأمل ودفع للصبر على المشقّات كانتا كلمتان كثيراً ما يتمّ تغييبهما عن المشهد. كلمتان جوهريّتان: المواطنة والحريّة.

المقصود بالمواطنة هو المساواة التامة بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، بعيداً عن أطروحات الأغلبيّة والأقليّة، والتوازنات بين “المكوّنات”. فما معنى “أغلبيّة”؟ وهل يُمكِن فرض ما يتمّ اعتباره “رغبتها” بدستورٍ دائم أو  إعلانٍ دستوري أو خطّة طريق مستقبليّة؟ ولكن هل “رغبتها” هي أصلاً واحدة وأليس هناك من فروقات جوهريّة في مدلولها بين ثقافات وتيارات فكريّة حضريّة ومناطقيّة قديمة وحديثة؟

***

لقد عملت الحركة الصهيونيّة منذ التقسيم الأوّل لفلسطين على جلب مستوطنين كي يصبحوا تدريجيّاً أغلبيّةً للسكّان على الأرض التي احتلّتها وكي تطرد السكان الفلسطينيين الأصليين من أرضهم، والذين ربّما كان أجدادهم يهوداً ثمّ مسيحيين قبل أن يعتنق معظمهم الإسلام. كلّ هذا في سبيل فرض طبيعةٍ يهوديّة للدولة، طبيعة “الأغلبيّة”، بحيث لا يُمكِن لغير اليهود أن يعيشوا فيها سوى كمواطنين من الدرجة الثانية وفي ظلّ نظام تمييزٍ عنصري، “أبارتايد”.

بالمقابل، نشأت جميع حركات التحرّر في بلدان المشرق العربي على المناداة بأنّ “الدين للّه والوطن للجميع”، أي أن الوطن لكلّ مواطنيه بغضّ النظر عمّا يعتنقون من أديانٍ ومذاهب. وقد أتى هذا بالتحديد لمواجهة التلاعب الاستعماري الغربي الذي أنهك الدولة العثمانيّة بحجج حماية الأقليّات ولمواجهة المشروع الصهيوني. هدفٌ وطنيّ ليس سهلاً في بلادٍ تعرف منذ الأزل تنوّعاً دينيّاً ومذهبيّاً وعرقيّاً ومناطقيّاً، على عكس كثيرٍ من الأوطان الأوروبيّة وغيرها. ولكن لا مستقبل لوطنٍ كأوطاننا دونه. وما زالت ذاكرة كبار السنّ بيننا تحفظ أنّ قادة فترة التحرّر كانوا يتوجّهون للمجتمع بدايةً بتعبير “أيهّا المواطنون.. أيّتها المواطنات”.

***

لقد فرح جميعُ السوريّين والسوريّات بسقوط استبداد آل الأسد وتأمّلوا بالوعد بمرحلةٍ انتقالية على أسسٍ تشمل الجميع، وتُنهي معاناتهم المعيشيّة وتعيد التعافي الاقتصادي وتصنع مستقبلاً زاهراً وتعيد توحيد البلاد وسيادتها على كلّ أراضيها. إلاّ أنّ الوعد كان يستحقّ أن يتضمن بشكلٍ أوضح وأصرح صون الحريّات العامّة والخاصّة. “حريّة للأبد..” هتفت بها حناجر تظاهرات الأيام الأولى ضدّ الاستبداد ودُفِعَت من أجلها أثمانٌ كبيرة قتلاً أو في السجون والمعتقلات.

إنّ السوريّين والسوريّات يعرفون جيّداً أنّ مسار تعافي سوريا ليس سهلاً ولا بدّ من تجاوز مصاعب عديدة داخليّة وخارجيّة. وهم يعون جيّداً أن تحقيق ديموقراطية حقيقيّة يتطلّب وقتاً. إلاّ أنهم يأملون أن يعتمد مسار التعافي جوهريّاً الحرية الفرديّة والحريات العامّة والاجتماعية والمواطنة. المواطنة والحريّات هي جزء من كرامة المجتمع السوري

الوضوح بشأن الحريّة والحريّات ضروريّ وبخاصّةً أنّ هناك اليوم ممارسات للسلطة التنفيذيّة المؤقتة توقِف وتُعيق أعمال الجمعيّات الأهليّة، بما فيها تلك التي تأسّست منذ نهاية القرن التاسع عشر، والتي حمت وساعدت المجتمع على الصبر والتحمّل والمعيشة لا سيما في مناطق سيطرة الاستبداد التي لم تحصل على دعم المنظّمات غير الحكوميّة المموّلة خارجياً كما في المناطق الأخرى. هذه الجمعيّات الأهليّة تشكّل لبنة المجتمع السوري ووسيلة تعاضد فئاته في زمن الأزمات ومواجهة المصائب. وهي ما زالت ضروريّة اليوم بما أنّ التعافي الاقتصادي والمعيشي سيكون حُكماً بطيئاً.

كما أنّ هناك ممارسات تُضيّق عمل النقابات المهنيّة، كنقابة المحامين وغيرها، وتسمّي قيادات لها من خارج مناطقها. في حين تجِب صيانة حريّة العمل النقابي والتخلّص من آثار الاستبداد الذي هيمن طويلاً عليه بغية بناء الدولة بشكلٍ سليم.

وتمّ حلّ جميع الأحزاب والكيانات السياسيّة، بما فيها حزب البعث، وكذلك حلّ جميع “الأجسام الثوريّة السياسية والمدنيّة”. ولم يرافق هذا الحلّ توضيح طبيعة الحريّات السياسية في المرحلة القادمة وإمكانيّة تشكيل وترخيص أحزاب سياسيّة جديدة. كي تتضِّح آليّة الحوار الوطني الذي سيعمل على وضع أسس الدستور الجديد. والأمر نفسه بالنسبة للمنظّمات المدنيّة.

وهذا يصطدِم مع واقع أنّ هناك أحزاباً سياسيّة ومنظّمات مدنيّة تمّ تأسيسها في الخارج وتلقى دعماً ماديّاً ومعنويّاً من قوى وفعاليّات خارجيّة. ستظلّ هذه الأحزاب والمنظّمات وحدها فاعلة لأهميّة هذا الخارج في مسار رفع العقوبات والتطبيع مع المجتمع الدولي. ما يعني أنّ الأحزاب المؤسسة داخليّاً أو التي تحاول التأسيس الآن هي التي ستعاني من هذه القرارات والممارسات. وما يعني واقعيّاً انحرافاً في الحياة السياسيّة السوريّة لصالح الخارج مع مخاطر صراعاته البينيّة التي تبدو واضحة منذ الآن في العودة إلى مقولاته القديمة في حماية “الأقليّات”.. بدل حماية الحريّات.

اللافت للانتباه أنّ هناك أيضاً ممارسات مماثلة فيما يتعلّق بالحريّات الاقتصادية التي وضعتها السلطات الجديدة أحد أهدافها الأساسيّة. إذ يُطلَب من كافّة الشركات إعادة تسجيل نفسها بحجّة أنّ بعضها شركات وهميّة خلقها النظام السابق. ويتمّ ذلك حتّى فيما يخصّ الشركات المؤسسة منذ أربعينيات القرن الماضي!

ناهيك عن التباطؤ في إنشاء آليّات عدالة انتقالية ومصالحة اجتماعية، ممّا قد يشوّش أجواء الارتياح العام بأنّ إسقاط الاستبداد تمّ سريعاً ودون كلف بشريّة باهظة، ولا يساعد في تجنّب الانتقام والتجاوزات هنا أو هناك.

إقرأ على موقع 180  عن حرب قلبت حياة السوريين.. في ذكراها العاشرة

***

لقد فَرِحَ جميعُ السوريين والسوريّات بسقوط سلطة الاستبداد لأنّهم بالتحديد يحملون آمالاً بالحريّات العامّة والفرديّة. وما زالت ماثلة في أذهانهم كيف أطلق بشار الأسد بعض الحريات العامّة عند وصوله إلى السلطة بحيث عاشت سوريا حينها ما سمّي “ربيع دمشق”. وكان قمع هذه الحريّات سبباً رئيسيّاً في رفض مقولته حينها “الإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي”. رفضٌ كان في مكانه لأنّ الإصلاح الاقتصادي لم يأتِ حقّاُ بل “رأسمالية الأصدقاء والأقرباء” التي كانت أحد الأسباب الرئيسيّة لانتفاضة المجتمع السوري سنة 2011.

إنّ السوريّين والسوريّات يعرفون جيّداً أنّ مسار تعافي سوريا ليس سهلاً ولا بدّ من تجاوز مصاعب عديدة داخليّة وخارجيّة. وهم يعون جيّداً أن تحقيق ديموقراطية حقيقيّة يتطلّب وقتاً. إلاّ أنهم يأملون أن يعتمد مسار التعافي جوهريّاً الحرية الفرديّة والحريات العامّة والاجتماعية والمواطنة، لأنّ هذا ما يحصِّن مسار التعافي والبناء القادمين.

المواطنة والحريّات هي جزء من كرامة المجتمع السوري، مثلها مثل سبل العيش والعمل والحياة.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  السطور الأخيرة في فصل الحضارة الغربية.. من يقلُب الصفحة؟