

دولتنا العربية المعاصرة هي في الأصل واقع جغرافي فرضته الغلبة الاستعمارية في معظم الأحيان، ونادراً ما نشأت تلك الدولة نتيجة قرار أهل العقد والحل. لم يلعب الداخل إلا دور المتلقي. لكن مع الزمن تنشأ لها ايديولوجيا أو مخيلة تزعم لها القدم، والأهم من ذلك أن مصالح الطبقات الحاكمة تغذي المخيلة المجتمعية لتجعل منها كيانا أبدياً على قدر كبير من الثبات، الذي يصبح مصدر الشرعية التي تأتي من كونها الإطار الناظم للمجتمع، بحيث تصبح شرطاً لما عداها ولا شرط عليها. فيقبلها الناس سواء كانت ضعيفة أو قوية، عادلة أو غير عادلة، ذات سيادة أو فاقدتها. نموذج الدولة الحديثة أن تكون هي الوجه الآخر للمواطنة. وبقدار ما يكون الناس مواطنين مشاركين ولو بقدر منقوص في تقرير المصير، يكون استقرار المجتمع، وإلا فهو معرّض للاستبداد والحروب الأهلية، وكل منهما يقود إلى الآخر.
فقدان السيادة
نظام الحكم (ٌRegime) هو ما يدير المجتمع، مستمداً شرعيته من الدولة، أي من المواطنين، الذين يكون انتماؤهم عادة للدولة التي تتكوّن منهم، لا لنظام الحكم الذي يتشكّل من أجهزة أمنية وبيروقراطية وقمعية وتربوية، الخ…، تتحكم بالنهاية بالمجتمع أي الدولة.
ليس مغالاة القول إن نظام الحكم هو ما يُفرض من فوق، وأن الدولة هي ما يتشكّل من تحت. وتكون المنازعات والمنافسات عادة في الدولة لا عليها، بالأحرى في إطار الدولة للفوز بنظام الحكم والسلطة، إذ هي موضع الانتماء والهوية. وعندما صدّحت الجماهير العربية في ثورة 2011 منادية بسقوط النظام، كانت تعني إسقاط نظام الحكم وإزاحة السلطة، لا إسقاط الدولة أو إلغاءها. فالثابت هو الدولة والمتحوّل هو نظام الحكم. وعندما يقول بعضنا نريد دولة، فإنه يعني أننا نريد نظام حكم يتماشى مع الدولة المثالية التي نحلم بها.
كان المؤرخون يكتبون عن مجتمع يحكمه العسكر، صار الآن العسكر هم نظام الحكم، وهم القابضون على مقدرات المجتمع، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً واجتماعياً. حتى صار بيدهم الجزء الأكبر من اقتصاد المجتمع، ولم يعد للرأي العام قيمة إلا بما يفرضه العسكر. هؤلاء صاروا طبقة هي التي تقرر مصير المجتمع، وما يفترض أن يفكر به
في هذه المرحلة من زمن أمتنا العربية، طغى الحكم على الدولة، وجوّف المجتمع واستبد به، حتى صارت الدولة شبه استحالة. لا يستطيع نظام الحكم السيطرة والحلول مكان الدولة إلا بالاستبداد الذي رأيناه يزيد ولا ينقص، وبخاصة بعد ثورة 2011. فتكاثرت أجهزة القمع والرقابة حتى أصاب المجتمع شلل، فاق بكثير ما كان قبل الثورة. هي طبقة أو طبقات حاكمة تتمسّك بالسلطة، حتى ولو أدى ذلك إلى حروب أهلية. وهي تتكاثر وتنتشر في مختلف أرجاء الوطن العربي. وتكاثرت معها السجون وأعداد المساجين السياسيين. وتنوعت أساليب إرهاب السلطة والتعذيب وإخفاء المعارضين بعد أن يُحولوهم إلى مجرد أرقام، حيث يستعاض برقم السجين عن إسمه، من أجل إخفائه.
لكل فرد رقيب!
بلغ خوف الأنظمة من شعوبها ما جعلها تتعسكر أكثر من أي وقت مضى. فقد كان المؤرخون يكتبون عن مجتمع يحكمه العسكر، صار الآن العسكر هم نظام الحكم، وهم القابضون على مقدرات المجتمع، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً واجتماعياً. حتى صار بيدهم الجزء الأكبر من اقتصاد المجتمع، ولم يعد للرأي العام قيمة إلا بما يفرضه العسكر. هؤلاء صاروا طبقة هي التي تقرر مصير المجتمع، وما يفترض أن يفكر به. فتعطل التفكير لدى النخب، وأصيب العقل العام بالعي، وأصابه استعباد واستبعاد. ونشأت في أقطارنا جيوش موازية أكثر عسكرة من التقليديين، نتيجة عدم ثقة نظام الحكم بالجيش التقليدي. فكأن العسكرة دين جديد، وما كان عقيدة قتالية للجيش، توسع بين العسكر وفي المجتمع ليصير عقيدته. يظن هؤلاء أنهم بذلك يواجهون المزاج الإسلامي الذي يخافون أن يتحكم به الإخوان المسلمون، ومن هم على منوالهم. وحيث لا جيش موازياً، تشكّل الأجهزة الأمنية ما يوازي ذلك. وهي بتزايد أعدادها تشكّل نسبة مئوية من السكان، ولكل فرد رقيب. وللمجتمع رقيب واحد هو طبقة العسكر وتفرعاتها.
حقيقة الوضع العربي أن الاستقلال لم يكن إلا وهماً. دولنا هي دول فاقدة للسيادة، إذ يحتاج العسكر دائماً إلى دعم خارجي (كولونيالي) يعينهم على شعوبهم ومجتمعاتهم. كذلك إيران، دولتها منقوصة السيادة لأنها تفاوض الخارج (الولايات المتحدة) على ما يجري على أراضيها. وكذلك تركيا، التي لم تُقبل في الاتحاد الأوروبي لأنها في الداخل لا تتطابق مع الثقافة الأوروبية.
يحاسب الناس على أفكارهم، بل على أوهامهم وأحلامهم. فالنظام العسكري لا يكتفي بأن يفرض على الناس الامتناع عن إبداء آرائهم وحسب، بل هو يسعى دائماً لتقرير ما يفكرون به. المسألة ليست التأثير في ما يفكر به الناس، بل النفاذ القسري إلى تلافيف النخاخ لردع الأفكار التي يعتبرها نظام العسكر خبيثة. وأسهل السبل إلى ذلك هو القسر والتنشئة على منوال ثقافة العسكر. ومن يشذ عن ذلك فالسجن والتعذيب جزاؤه أو الإخفاء، إذ يعاقب “الشاذ” فكرياً بإخفاء جسده، وغيابه كلياً عن الوجود. يتعدى ذلك العقاب على الجريمة الفكرية. فالعسكر يحتلون ما كان مجال الثقافة.
السيادة من الخارج!
يُفضّل المحللون، وبخاصة في وسائل الإعلام المحلية، الحديث عن بلادهم بتوصيفات جيو-سياسية دولية، لأن السياسة في بلادهم مقطوعة، بالأحرى ممنوعة، ولأنهم يخشون تبعات التحليل للسياسة والسياسات المحلية. والأهم لأن السيادة في بلادهم جيوسياسية، أي أنها منقوصة بالتبعية لقوى خارجية. هذا في بلدان الاستبداد. أما في بلد الطائفية، فإن الاتيكيت الطائفي يفرض نوعاً من التهذيب في مخاطبة الأطراف الطائفية الأخرى، إلا إذا أراد الخارج إثارة أزمة في العلاقات بين الطوائف.
إن الأساس في الدولة الحديثة والمثالية هو الفرد المواطن. والأساس في نظام الحكم هو الجماعة الطائفية أو الإثنية أو طبقة العسكر والشبيحة والبلطجية. الفرد باستقلاليته غير موجود في دولة فاقدة السيادة ومتحولة إلى الاستبداد حكماً. الفرد لا يوجد إلا في الدولة، وهذه لا تكون إلا بالمواطنة. على كل حال، التحليل الجيوسياسي هو الذي يؤدي إلى فهم أو توهم فهم المحلي وليس العكس. انعدام الدولة أو إعدامها يلغي السيادة والعلاقة الايجابية أو السلبية بين المواطن والدولة، ويحل مكان ذلك العلاقة بين الامبراطورية والأنظمة التابعة التي ما تبعيتها إلا نتيجة فقدان السيادة وإلغاء الدولة، وعدم وجود انتماء محلي إلا لنظام الحكم. إرهاب السلطة لمجتمعها مطلب كولونيالي، ينتج عنه إرهاب الجماعات المسلحة التي يرفض وعيها الكولونيالية، وتشهد بصيرتها بؤس الدولة وتلاشيها، وذلك الشعور الحدسي بأن كل فرد في المجتمع فاقد هويته التي لا تكون عادة إلا بالدولة، وتصير استحالة مع تفرّد نظام الحكم بالسلطة. تختلف مقاومات مثل حماس وحزب الله عن سابقاتها التي كان حلمها الدولة، وانتهت إليها برغم معارضة إسرائيل والمقاومات الإسلاموية. لم تتحقق الدولة الفلسطينية، إذ غابت السيادة عنها، وكان مصيرها مثيلاً لما عانته كل الأقطار العربية. تحولت بلاد العرب إلى ساحات لسيادات خارجية، من بينها تركيا وإيران ودول الامبريالية العالمية، التي لا تريد أن ترى لدى العرب دولاً ذات سيادة ولا في شعوبها ما يستحق الاعتبار. تأتي السيادة من الخارج، من دول إسلامية وامبريالية عامة. لا من شعوب ومجتمعات المنطقة العربية الغارقة في بؤسها والخاضعة لأنظمة الحكم التي تبحث عن سيادة الغير، فتتحالف معه، وتتسيّد التحليلات الجيوسياسية في الوعي العربي.
إذا أردت أن تعرف ما في بلد عربي، فعليك أن تعرف ما في طهران وأنقرة، وقبل كل ذلك ما في واشنطن وباريس ولندن وبرلين وموسكو. وتستمر الكولونيالية دون احتلال الأرض، لكن بمصادرتها للسيادة، بالأحرى لإرادة شعوبنا ومجتمعاتنا.
شعوب دون روح
أدى فقدان السيادة في الدولة العربية المعاصرة إلى تحكّم نظام الحكم وتسيّد البيروقراطية، وأجهزة الأمن، وحكم العسكر، والأكثر من ذلك إلى فقدان معنى الدولة، وتعمية الوعي، ونشوء الجيوش الموازية والمقاومات اللامجدية. فقد صار لزاماً على الأنظمة حماية نفسها من شعوبها، إذ صارت هذه دون إطار ودون اتجاه، بل تعمّق لديها الشعور بفقدان المعنى، وما انتشار مزاج الإسلام السياسي إلا للاحتماء، على الأقل نفسياً، من عنف الأنظمة المادي والمعنوي. وانتشر مفهوم الأمة الإسلامية في الفضاء الفكري العربي، ونتج عن ذلك فراغ لا تملؤه إلا العروبة. ثم تفاقم العسكر بعد ثورة 2011، فما كان غيرهم على استعداد لسد الفراغ، وصاروا يشكلون طبقة أفرغت الروح العربية من زخمها، وصار لزاماً وضع هذه النفس في سجن معنوي ومادي كبير، خوفاً من تكرار ثورة 2011، بالأحرى هلعاً من المجتمع. وما كان الأمر مجرد سقوط للدولة ومفاهيمها بمقدار ما كان فقدان سيادتها، وتحكّم نظام الحكم، والحاجة لدى أنظمة القمع إلى مزيد منه في سبيل التعمية وتغطية فقدان المعنى والمغزى. وصرنا شعوباً دون روح تتزاحم التناقضات في نفسنا، والحروب الأهلية في مجتمعاتنا. واكتمل الانفصام بين المجتمع ومن يحكمه. وانتشر الخوف، خوف الأنظمة من شعوبها، وخوف هذه من حكامها. وصار المجال العربي ساحة جيوفيزيائية تتصارع فيها القوى الكولونيالية المحلية والعالمية.
انحسر الإبداع، إذ جرى تجويف الثقافة العربية. فصار صعباً فهم تاريخنا، وكيف يتطوّر أو كيف يُمكن تطويره. وتراجع شأن الإرادة، إرادة الشعوب، التي صارت تتلقى الضربات دون مقاومة لأنها تضطر إلى نزع سلاحها الذي صار غير ذي فائدة بغياب مقاومة شاملة تتأطّر فيها قوى الاقتصاد والثقافة والسياسة، وجميع قوى وقطاعات المجتمع. وشُلّ الحراك، وصار الحاضر المهزوم لا يبرح مكانه دون قدرة على التجاوز، ناهيك عن الانخراط بالعالم وثقافته. وأصبنا بالعي، وصار الاستقرار مطلباً لا يلبيه إلا العسكر. فتحوّل الناس من الإسلام السياسي إلى عسكرة المجتمع التي لا تفضي سوى إلى الجمود والتآكل.
ربما كان الأمر يتطلّب جهداً فكريا استثنائياً تمارسه نخبنا لجلاء الواقع وخلق حقائق جديدة، وهذا ما قصرّنا فيه. فالنار تحت الرماد كما قال نصر بن سيّار:
أرى تحت الرماد وميض نار/ ويوشك أن يكون له ضرام
لكننا لا نعرف هل نحن أيقاظ أم نيام؟