

قبل الاحاطة بعناصر التصور الفرنسي حيال المستجدات اللبنانية المتسارعة منذ حوالي الستة أشهر، تُشدّد الأوساط الفرنسية المتابعة للملف اللبناني على الاهتمام الفرنسي المتواصل بالأوضاع اللبنانية وذلك على كل المستويات وفي مختلف الاتجاهات، أكان من خلال اللجنة الخماسية المواكبة للاستحقاق الرئاسي أم عبر لجنة مراقبة تنفيذ اتفاق وقف العمليات العدائية بين لبنان وإسرائيل وأخيراً في عملية النهوض المالي والاقتصادي.
يتميز هذا الاهتمام بالحضور الدائم للموضوع اللبناني في اتصالات باريس الديبلوماسية، إقليمياً من خلال “التنسيق الوثيق” مع المملكة العربية السعودية، ودولياً من خلال “التشاور المتواصل” مع الولايات المتحدة.
سياسة “الخطوة خطوة”
ولكن ما هي أبرز عناصر التصور الفرنسي الذي تكوَن من خلال مواكبة باريس للتحولات اللبنانية وللمتغيرات الاقليمية؟
أولاً؛ الانجاز الأساسي، الذي تمثل بملء الفراغ الرئاسي وعودة عجلة العمل الحكومي بتأليف حكومة جديدة، شكّل نقطة انطلاق لمرحلة جديدة فتحت الآفاق لورشة متكاملة على مختلف الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية. وهذا التطور المحوري لم يكن ليتم لولا “الالتزام الفرنسي والدعم الأميركي والحسم السعودي”.
ثانياً؛ تعثرالتنفيذ الكامل لمندرجات اتفاق “وقف العمليات العدائية” بين لبنان وإسرائيل “المبهم في بعض بنوده التي تترك المجال لكل تفسير وتأويل”، نتيجة بقاء الجيش الإسرائيلي في عدد من النقاط والمواقع داخل الحدود اللبنانية إضافة إلى استمرار القيام باعتداءات مختلفة. كل هذه الأمور لا تسهل عمل لجنة الاشراف الثلاثية لمراقبة حسن تنفيذ الاتفاق ولا تساعد في التنفيذ الكامل لمندرجات الاتفاق.
ولا تخفي باريس انزعاجها الكبير وادانتها الشديدة لكل هذه الخروقات الإسرائيلية، إلا أنها تنفي ما تردد عن انسحابها من آلية المراقبة ذلك أنها ترى أن هناك فائدة من مواكبة العمل من الداخل.
ثالثاً؛ تُدرك باريس الصعوبات والعوائق التي تعيق تنفيذ قرارحصرية السلاح بيد السلطات الشرعية اللبنانية، كما أنها تعي حجم الضغوط الممارسة على الحكم اللبناني الحالي أكان من بعض فرقاء الداخل أو بعض الجهات الخارجية من أجل تسريع تنفيذ قرار حصرية السلاح. وتعتبر هذه الأوساط أن خبرة الرئيس جوزاف عون المتراكمة منذ توليه قيادة الجيش ومعرفته المزدوجة بوضعية المؤسسة العسكرية إضافة الى دقة التركيبة السياسية الداخلية، هذه كُلها تجعله يتصرف بروية وحكمة.
وأعربت هذه الأوساط عن دعمها لمقاربة الرئيس عون لهذا الموضوع الجوهري والحسّاس واتباعه سياسة “الخطوة خطوة”. وفي هذه المناسبة، جدّدت هذه الأوساط الدعم الكامل للجيش اللبناني وللخطوات التي يقوم بها في إطار المهام الموكلة إليه من أجل استعادة سيادة الدولة على كامل أراضيها “في جنوب الليطاني.. كما في شماله”.
رابعاً؛ في المقابل، تؤكد هذه الأوساط أن قرار حصرية السلاح يستجيب ليس فقط إلى رغبة داخلية جامعة بل إنه يستند أيضاً إلى دعم خارجي عربي ودولي وبالتالي “لا عودة عنه”، وتشير إلى أن الحصرية المقصودة هي “شاملة وكاملة”.. ومن هنا “الدعوة واضحة وحازمة” إلى حزب الله للتعاون الجدي والتجاوب الفعلي وعدم المراهنة على لعبة الوقت في انتظار متغيرات خارجية.
خامساً؛ ترى هذه الأوساط أن حكومة سلام في سباق مع الوقت من أجل انجاز القدر الأكبر من الإصلاحات المطلوبة مالياً واقتصادياً ومصرفياً لأن المدة الفاصلة قبل الانتخابات النيابية المقبلة لا تتعدى السنة والمعروف أن الحملات الانتخابية والمزايدات السياسية تسبقها لذلك ثمة فسحة زمنية لا تتعدى الأشهر المعدودة من الآن وحتى نهاية هذا العام.
تُدرك باريس الصعوبات التي تعيق تنفيذ قرارحصرية السلاح بيد السلطات الشرعية اللبنانية، كما أنها تعي حجم الضغوط الممارسة على الحكم اللبناني الحالي أكان من بعض فرقاء الداخل أو بعض الجهات الخارجية من أجل تسريع تنفيذ قرار حصرية السلاح. وتعتبر هذه الأوساط أن خبرة جوزاف عون المتراكمة منذ توليه قيادة الجيش ومعرفته المزدوجة بوضعية المؤسسة العسكرية إضافة الى دقة التركيبة السياسية الداخلية، هذه كُلها تجعله يتصرف بروية وحكمة
الغاء السرية المصرفية “واعدة ولكن”
وفي هذا الإطار، أعربت هذه الأوساط عن ارتياحها إلى اقرار المجلس النيابي مؤخراً قانون السرية المصرفية، ورأت فيه “خطوة واعدة على طريق الاصلاحات الاقتصادية والمالية ولكنها ليست كافية لوحدها”، كما شدّدت على “أن إعادة الثقة بالقطاع المصرفي تمر أيضاً باقرار مشروع القانون المتعلق بإعادة هيكلة واصلاح القطاع المصرفي الذي يشكل أولوية”.
وفي هذا المجال، أكدت هذه الأوساط أنها تعي جيداً حجم الضغوط المناوئة التي تواجه هذه الاصلاحات من قبل بعض الأوساط المالية والمصرفية التي تُجنّد أذرعتها وامتداداتها السياسية والاعلامية داخل لبنان وخارجه والهدف فرض رؤيتها لكيفية توزيع الخسائر ولإعادة هيكلة المصارف.
وهنا تكشف هذه الأوساط أن تأجيل استضافة باريس للمؤتمر الهادف إلى حشد الدعم المالي والاستثماري الدولي للبنان لا يرتبط بتوفير الاستعدادات اللوجستية له، بقدر ما هو مشروط بتأمين ظروف نجاحه من خلال حشد أكبر عدد من الدول والمؤسسات العربية والأوروبية والدولية المستعدة للالتزام بتقديم الدعم الفعلي، وأن تحديد الموعد النهائي مرتبط بشكل أساسي بقدرة الحكومة اللبنانية وسرعتها في انجاز الاصلاحات المطلوبة لضمان الشفافية والفعالية.
كما ان باريس على استعداد للقيام بمبادرات لتهيئة الاجواء والظروف الملائمة لانجاح انعقاد المؤتمر المرتقب في الخريف المقبل. وفي هذا الاطار تم التداول في معلومات تشير الى لقاءات ديبلوماسية وتقنية تمهيدية ستعقد خلال الايام والاسابيع المقبلة للتشاور حول مسار الاصلاحات التي بدأتها الحكومة اللبنانية ووضع التصور الافضل لاطار المؤتمر الموعود.
وماذا عن التحرك الفرنسي في المرحلة المقبلة؟
تُشير الأوساط المتابعة إلى وجود “روابط عميقة وشراكة استراتيجية” بين فرنسا ولبنان، وتؤكد أن اهتمام باريس بلبنان يتميز بالاستمرارية ذات النفس الطويل ويتميز ليس فقط بتنمية العلاقات الثنائية بل بلعب دور مساعد في تعزيز علاقات لبنان الخارجية أكان على صعيد الاتحاد الأوروبي أو كما حصل في الفترة الأخيرة إقليمياً ودولياً وخصوصاً مع السعودية والولايات المتحدة. ورأت هذه الأوساط أن تحرك باريس المستقبلي يستند إلى كل هذه المعطيات.
ويترافق ذلك مع توجيه دعوة ملحة إلى الفرقاء اللبنانيين من أجل التجاوب مع مساعي الحكم والحكومة لاغتنام الفرص المتاحة لانهاض البلد أكان على صعيد عودة الاهتمام الدولي (خصوصاً الأميركي) أوعلى صعيد انفتاح البوابة الخليجية من جديد بعد طول انتظار، إضافة إلى العمل لتحصين الساحة الداخلية وحمايتها من الرياح الإقليمية وتعزيز الاستقرار وتوطيد الوحدة وبسط السيادة مع ضرورة الاقتناع بأن “لا عودة إلى الوراء”.