

إذا كانت الثروات المعدنية ضرورية للانتقال إلى “التكنولوجيا الخضراء”، فإنّ الواقع يُظهر معضلة تعدّد المنتجين: النحاس تحت سيطرة نحو عشرة منتجين كبار؛ الكوبالت يأتي من جمهورية الكونغو الديموقراطية بنسبة 76%؛ الليثيوم موجود بنسبة 75% في أستراليا وشيلي والصين. وتتشكل الأسواق وفقأ لهذه الخريطة، ثم يأتي الاستخراج والتكرير وتصنيع السلع مثل السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات، بحيث تُصبح كل السلسلة ذات أهميّة إستراتيجيّة.
وفي هذا السياق، تتموضع الصين لاعباً أساسيّاً في مرحلة التحوّل إلى عصر صناعي جديد، إذ تتولّى تكرير 70% من المواد الضرورية للبطاريات، وتصنيع ما بين 80 و85% من ألواح الطاقة الشمسيّة المتوافرة على النطاق العالمي، ونحو 65% من أبراج الطاقة الهوائيّة، فضلاً عن 52% من بطاريات السيارات الكهربائيّة في العالم. علماً أن الصين تحوز على 60% من المبيعات العالميّة للسيارات الكهربائيّة، متجاوزة أوروبا على نحو واسع (25%) كما الولايات المتحدة (10%).
وعندما أقدمت إدارة دونالد ترامب على رفع التعريفات الجمركيّة على الواردات الصينيّة (175%)، لجأت السلطات الصينيّة إلى فرض تعريفات جمركيّة مقابلة على دخول السلع الأميركيّة إلى أراضيها (125%)، وأوقفت تصدير بعض المعادن النادرة ذات القيمة الاستراتيجيّة. وتوحي الأجواء الإعلامية في بكين أنه ليس وارداً من جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ التراجع أمام الضغوط التي يمارسها نظيره الأميركي، بل يُفهم من تصريحات ترامب أنه يستعدّ لخفض التعريفات المفروضة على الصين بعدما أيقن أنها الطريقة الوحيدة لتجنّب بلوغ مستوى القطيعة التجاريّة مع الصين، وهو الأمر الذي لا يصبّ في مصلحة أميركا. وقد لاحظ ترامب في 9 نيسان/أبريل الماضي أمام الهزّة التي أصابت الأسواق، أنه من الأفضل التراجع عن التعريفات الجمركيّة المرتفعة التي فرضها على معظم البلدان في العالم، مقابل التركيز على الصين؛ القوّة العالميّة الصاعدة التي تُجمع النخبة السياسيّة الأميركيّة على التعامل معها بصفتها منافساً خطيراً.
لكل من هذه الدول العربيّة (السعودية والإمارات وقطر) استثمارات كبيرة في المناجم الإفريقيّة تساعدها في تنويع اقتصادها وإضفاء صفة استقلاليّة على سياساتها. وفي هذا الإطار، عملت السعوديّة على تطوير مفهوم “المنطقة الكبرى” التي تقع جغرافياً بين القارة الإفريقيّة والأسواق الواعدة في آسيا، وهي تطمح إلى أن تصبح محطة مركزية تجاريّاً ولوجستيّاً ومالياًّ، وظيفتها معالجة الإشكاليّات الخاصة بالمناجم
وعلى الرغم من الحرب التجاريّة التي تورّط فيها ترامب، تتجنّب السلطات الصينيّة حتى الآن تفعيل سلاح مقاطعة المنتجات الأميركيّة، مع السعي إلى تعميم صورة عن نفسها باعتبارها قوّة عالميّة مسؤولة وبديلة “من الإمبريالية الأميركية”. وهذه كانت رسالة الرئيس الصيني خلال جولته الإقليميّة التي شملت في نيسان/أبريل الماضي فيتنام وماليزيا وكمبوديا.
إفريقيا والدور العربي
من جهة أخرى، نرى الدبلوماسيّة الأميركيّة ناشطة بقوّة في محادثات السلام بين جمهوريّة الكونغو الديموقراطيّة ورواندا، وذلك لضمان الوصول إلى المناجم الاستراتيجيّة في منطقه البحيرات الكبرى الإفريقيّة. وإذا كانت النشاطية الأميركيّة في إفريقيا ترتدي وتيرة لافتة للانتباه، فإنها تأتي متأخّرة 20 سنة عن الاختراق الصيني لهذا المجال الجيوسياسي. ويستغلّ الأميركيون تراجع النفوذ الأوروبي، ولا سيّما الفرنسي، ويعمدون إلى استخدام كل الوسائل الممكنة للدخول إلى أسواق المعادن الأفريقية، وهو الأمر الذي يجعلهم في مواجهة ليس مع الصين فحسب، بل مع دول الخليج العربيّة.
وهنا الحديث عن الحضور العربي يعني بالدرجة الأولى دولة الإمارات والمملكة العربيّة السعوديّة، وقطر بدرجة أقل، ولكل من هذه الدول العربيّة استثمارات كبيرة في المناجم الإفريقيّة تساعدها في تنويع اقتصادها وإضفاء صفة استقلاليّة على سياساتها. وفي هذا الإطار، عملت السعوديّة على تطوير مفهوم “المنطقة الكبرى” التي تقع جغرافياً بين القارة الإفريقيّة والأسواق الواعدة في آسيا، وهي تطمح إلى أن تصبح محطة مركزية تجاريّاً ولوجستيّاً ومالياًّ، وظيفتها معالجة الإشكاليّات الخاصة بالمناجم.
وإذ تُعتبر دولة الإمارات المستثمر الأول في التحول الطاقوي في أفريقيا، أنشأت السعوديّة “منتدى المعادن للمستقبل” (Future Minerals Forum) في العام 2022، وتعمل على بناء سرديّة تشبه السرديّة الصينيّة حول “طرق الحرير الجديدة”، خصوصاً أن إلتزامها خيار عدم الانحياز يُثير إعجاب الدول الإفريقية.
يرى خبراء في الشؤون الإفريقيّة، أن “مشروع الكوريدور” بين أنغولا والكونغو، ينطوي على طرح بديل منافس لـ”طرق الحرير الجديدة” الصينيّة بعدما باتت هذه تربط أكثر من 150 بلداً في العالم بتمويل لإنشاء مراكز أبحاث وموانئ ومطارات وخطوطٍ للسكّة الحديدية
وفي ظلّ الحضور الصيني البارز في شرق إفريقيا، وانكفاء النفوذ الأوروبي عن منطقة الساحل، تحوّلت أنغولا إلى بوابة جديدة للنشاطات الغربية جنوب الساحل الإفريقي. وخلال زيارته لأنغولا أعلن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تقديم قرض أميركي قيمته 553 مليون دولار لتحديث خط السكّة الحديد الذي يربط ميناء لوبيتو على الساحل الأطلسي بجمهورية الكونغو الديموقراطية وزامبيا الغنيّتين بالنحاس والكوبالت، وهما من المعادن الأساسيّة لإنتاج البطاريات الكهربائيّة وأشباه الموصلات وألواح الطاقة الشمسية. ولاحقاً أوفد الرئيس ترامب مبعوثه الخاص مسعد بولس إلى الكونغو في نيسان/أبريل الماضي لإظهار اهتمام واشنطن بالدفع باستثمارات القطاع الخاص الأميركي في جمهوريّة الكونغو الديموقراطيّة وخصوصاً في قطاع المناجم.
ويحاول الأميركيّون تغطية اهتمامهم المركّز على المعادن بوعود تتناول الطاقة الشمسيّة وطرق المواصلات والإهراءات الخاصة بالحبوب، وهو أمر جعل بايدن يؤكد خلال زيارته لأنغولا أنه “في إطار هذا المشروع سيجري توفير كمية كافية من الطاقة لمئات الآلاف من العائلات وتعميم الإنترنت على الملايين من سكان أنغولا”. لكن هؤلاء ما زالوا ينتظرون تنفيذ الوعود الأميركية وسط مشاهد الفقر والعَوَز والمرض.
ويرى خبراء في الشؤون الإفريقيّة، أن “مشروع الكوريدور” بين أنغولا والكونغو، ينطوي على طرح بديل منافس لـ”طرق الحرير الجديدة” الصينيّة بعدما باتت هذه تربط أكثر من 150 بلداً في العالم بتمويل لإنشاء مراكز أبحاث وموانئ ومطارات وخطوطٍ للسكّة الحديدية.
الاتفاق مع أوكرانيا
ويتبيّن من حيثيّات الاتفاق الموقّع أخيراً بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، أنّ أوكرانيا سوف تحافظ على ملكيّة ثرواتها المعدنيّة في باطن الأرض، والبُنى التحتيّة وحصيلة كل المشاريع التعدينيّة التي سبق وانخرطت فيها. أي بعبارة أخرى، ستحافظ أوكرانيا على حقوقها في كل ما تُنتج حاليّاً من نفط وغاز وتيتان. وهذا يُزيل حالة عدم اليقين التي نشأت بسبب التشويش الذي رافق الطلبات التي طرحها ترامب في البداية لاسترداد الديون المترتّبة على كييف نتيجة الحرب مع روسيا.
وينطوي باطن الأرض في أوكرانيا على 5% من الثروات المعدنيّة في العالم. ويشمل أيضاً الغاز والنفط. كذلك هناك الجرافيت المستخدم في بطاريات التيتان للصناعة العسكريّة، والزركونيوم والليثيوم إلى مواد أخرى نادرة، ويدور كلام كثير حول مواد منجمية نادرة في أوكرانيا، لكن ليس معلوماً بدقّة إذا كانت هذه المواد قابلة للإنتاج بفائدة إقتصادية.
أما المسألة الغائبة فهي الأمن، لأنه من السذاجة الاعتقاد أن إدارة ترامب تريد أن تذهب الشركات الأميركيّة إلى العمل في باطن الأرض الأوكرانيّة من دون أن تجد إطاراً أمنياً حامياً أقوى مما هو قائم حاليّاً في ظلّ الحرب مع روسيا.
ويبقى أن ثمة تساؤلات أوروبية جدية حول البنية الإستثمارية الثنائية المقترحة بين واشنطن وكييف، خصوصاً لناحية استبعاد أي سيطرة أميركية على صيغة لصندوق الإستثمار الذي يُقدّم على أنه سيكون أقرب إلى شراكة بحصص متساوية (50/50). أكثر من ذلك، إن الإتفاق يتجاوز المعادن ليكون إطاراً لشراكة اقتصادية طويلة الأجل مع خطة لإعادة إعمار أوكرانيا، في الوقت الذي تتحرك شعبوية ترامب وشعارها “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (Make America Great Again أو MAGA) على إيقاع الخيبة والفشل في استعادة الهيمنة المعولمة.