سيمفونية الزمن الصيني.. “حزام وطريق” وتحديات!

يقول وانغ إيوي، مؤلف كتاب "الحزام والطريق"، "إن المبادرة ليست مقطوعة موسيقية تعزفها الصين بصورة منفردة، بل إنها سيمفونية جماعية لكلّ الدول على طول خط الحزام والطريق"، ويضيف أنها لا تؤدي دورًا في التعبير عن حلم الصين فحسب، بل في ترجمة أهداف الأمم المتحدة في السلام والتنمية، ولا سيّما التنمية المستدامة لعام 2030، وتجسّد المسؤوليات العالمية، التي تضطّلع بها الصين بعد نهضتها.

هل نحن أمام لحظة مفصلية وربما مقدمة لتغيير عظيم، أم ثمة عقبات وعراقيل وتحديات تعترض هذه المبادرة الاستراتيجية؟

من الواضح أن الغرب يسعى لإعادة الضبط والسيطرة والتحكم، كي لا تفلت إدارة العالم من بين يديه، ولهذا يعمل جاهدًا لتطوير الرأسمالية لخشيته من غروب شمسها وسطوع شمس الشرق.

ولا ندري إن كان ما يرشح إلينا عن مبادرة الصين “العالمية” حقيقة أم خيالًا؟ فكلّ ما فيها يتعلّق بالحياة والمستقبل، الذي سيُحدث فيها تغيرات غير مسبوقة في الملبس والمأكل والمسكن ووسائل النقل، بحيث تكون أكثر وفرةً وجمالًا وسهولةً، خصوصًا حين يتم تدشين الطور الخامس للثورة الصناعية، بكل ما فيها من ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية (الديجيتل) واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

ويُفترض أن تشارك 64 دولة مع الصين في تنفيذ المبادرة، علمًا بأن المشاريع المرشحة تقدّر ﺑ 900 مشروع، ويبلغ حجم الاستثمارات 800 مليار دولار أمريكي، وخلال العام الجاري 2024، ستنبثق عنها تشكيلة موحدة وشبكة موحدة لمناطق التجارة الحرّة المتميّزة، بمعايير عالية بين الدول الواقعة على امتدادها، وتتحوّل بفضلها الممرات الاستراتيجية المؤدية إلى بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي إلى ممرات مائية مترابطة وآمنة. وحسبما يقول مؤلف الكتاب، ستكون في العام 2049 رابطة مشتركة من المصالح والمسؤوليات والمصير في السياسة والمنشآت والتجارة والتمويل وعلاقات الشعوب.

حتى لو نجحت “مبادرة الحزام والطريق” وأحدثت تأثيرات كبيرة جيوسياسية وجيواقتصادية لمصلحة الصين، لكنها لا تلغي دور الولايات المتحدة، علمًا بأن الصين من جانبها تبذل جهودًا إيجابية للتعاون مع الولايات المتحدة، بما يعزز التنمية الاقتصادية ويحقق الإستقرار العالمي والإقليمي

حين دعت الصين لهذه المبادرة العملاقة، انطلقت من ثلاثة مبادئ هي: التشاور والتشارك والتنافع في النقاش والبناء والفوائد، على أساس العدالة والمصلحة. فهل ستتفلت هذه المبادرة عن قوانين العولمة، خصوصًا بوجهها المتوحّش؟ يجيب عن هذا السؤال دعاة المبادرة بالقول “إنها ستكون عولمة متسامحة على عكس العولمة الغربية، التي أخضعت شرق العالم وأريافه ومدنه ومناطقه القارية لمناطقه الساحلية وللغرب عمومًا”.

ولكن ما هي ملامح العولمة المتسامحة؟ يقول أنصار العولمة، ذات الوجه الإنساني، إنها ستتّسم بالتوازن وبتبادل المنفعة، خصوصًا بربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، وبالاستفادة من مسيرة التصنيع الصيني خلال اﻟ 35 عامًا المنصرمة، والتي انتقلت من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية والمعلوماتية، حيث تُعتبر الصين اليوم، إحدى الدول الكبيرة الرائدة على المستوى العالمي.

ربما ذلك يؤكّد نظرية أوراسيا (أوروبا وآسيا)، التي قيل عنها قلب العالم، ومن يتحكّم فيها يستطيع السيطرة على العالم، فهل يمكن تجاوز “المركزية الغربية”؟ وهل سيكون القرن الحالي صينيًا أم ثمة واقع آخر يتشكّل وهو تعددية الأقطاب، حيث تتنوّع المصالح وتتشابك المنافع وتتفاعل المستلزمات، وسوف لا يكون مركزًا واحدًا، بل ثمة مراكز متعددة وأشكالًا متنوعة على أساس الترابط والتواصل.

وللمبادرة بُعد جغرافي وآخر إنساني، وهذا هو الأهم، أي المشتركات الإنسانية، التي تربط البشر، بغضّ النظر عن خلفياتهم الفكرية وقومياتهم وأديانهم ولغاتهم وأجناسهم ولون بشرتهم وانحدارهم الاجتماعي، وستؤدي العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدان والشعوب التي تشملها المبادرة إلى اقترابها من بعضها البعض، في ظلّ أوضاع سلمية وعلى أساس المساواة والعدالة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وذلك هو ما يحتاجه العالم.

ويُعتبر “الممر الهندي”، الذي يربط جنوب آسيا بأوروبا عبر الخليج العربي والشرق الأوسط، والذي قرّرته قمة العشرين (2023) المنعقدة في نيودلهي، منافسًا لـ”مبادرة الطريق والحزام”، التي رسمت طريقها الصين باستراتيجية تنموية كاملة ومشتركة، تقوم على ثلاثة أبعاد:

أولها: البُعد الزماني، ما بين الماضي والحاضر؛

ثانيها: البُعد المكاني، والمقصود بذلك الدول التي يمتد إليها “الحزام والطريق”؛

ثالثها: البعد الذاتي، أي قدرة المبادرة على دفع عملية التنمية؛ وحلّ المشكلات العالمية، وأولها الفقر وردم الفجوة بين الغنى والفقر في ظلّ نظام يقوم على الإدارة الرشيدة (الحوكمة).

حتى الآن، وقّعت الصين على اتفاقيات للتعاون في بناء “الحزام والطريق” مع أكثر من 30 دولة، واتّخذت العديد من المنظمات الدولية موقفًا إيجابيًا منها بما فيها الأمم المتحدة. ولعلّ ذلك ما أثار حفيظة واشنطن، التي تعتقد أن الصين تسعى إلى فرض الهيمنة على التكامل الأوروآسيوي، إضافة إلى وضع نظام بريتون وودز الصيني موضع التطبيق، وهو نظام نقدي تستند فيه الوحدة الاقتصادية القياسية على كمية ثابتة من الذهب (المعيار الذهبي)، والسعي لاستعادة تايوان، والتعتيم على هدر حقوق الإنسان في التيبت، وإيجاد حلّ لمشكلة طاقة الانتاج الفائضة، وتلك خشية الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، من منافستها على القيادة.

ويمكنني القول إنه حتى لو نجحت “مبادرة الحزام والطريق” وأحدثت تأثيرات كبيرة جيوسياسية وجيواقتصادية لمصلحة الصين، لكنها لا تلغي دور الولايات المتحدة، علمًا بأن الصين من جانبها تبذل جهودًا إيجابية للتعاون مع الولايات المتحدة، بما يعزز التنمية الاقتصادية ويحقق الإستقرار العالمي والإقليمي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الصراع الصيني الأمريكي.. الشرق الأوسط لمن؟
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنحطاط الغرب.. أو سيرة "ضرّاب السيوف"!