لبنان: مناقشة “حصريّة السّلاح”.. مدخل ومفاهيم أولية

في ما يعني موضوع "حصريّة السّلاح"، إنّ أغلب الجدل القائم اليوم في البلد يعتمد، للأسف، على مقاربة هي في الغالب: إمّا عاطفيّة/كيديّة في أحيان كثيرة؛ أو دوغمائيّة وربّما غير علميّة ولا موضوعيّة من أساسها ومن جذورها.

أعتقد شخصيّاً، خصوصاً بعد نشر وثيقة[1] جدّيّة الأسبوع الفائت وبعد توقيعها من قبل العشرات من الشّخصيّات الأكاديميّة والصّحفيّة ومن النّاشطين السّياسيّين في البلد.. أعتقد أنّ علينا الدّعوة جميعاً إلى دفع الحوار المصيريّ هذا – قدر الإمكان – نحو الدّائرة العلميّة الرّصينة والموضوعيّة.

إذن، الفكرة الأساسيّة التي ينبغي التّشديد عليها برأيي هي التّالية: مهما كان رأينا المُسبق أو النّهائيّ الخاصّ أو الحزبيّ.. لنحرص جميعاً، بما في ذلك أركان السّلطتَين التّشريعيّة والتّنفيذيّة الحاليّة في البلاد، على البقاء – قدر الإمكان – ضمن الاطار العلميّ والموضوعيّ. يمتلك هذا البلد نُخباً من الطّراز العالميّ، كما نعلم جميعاً، لا سيّما منّا من يُكثر السّفر والتّرحال. ولذلك، فمن المُعيب ألّا نستطيع تأطير نقاش كهذا النّقاش.. بالأطر العلميّة، وتحريكه من خلال الأدوات الأكاديميّة الموضوعيّة الطّابع.

من اللّافت للانتباه بالمناسبة، وعلى سبيل المثال، كيفيّة استخدام مصطلح و/أو مفهوم “الدّولة” من قبل الطّرفَين الأساسيَّين المتنازعَين حاليّاً. فبينما يتحمّل أحدهما – صراحةً وغالباً – مسؤوليّة عدم التّركيز على أهميّة “بناء الدّولة” وأهميّة تعميم “ثقافة الدّولة” (وما إلى ذلك) بجدّيّة خلال المرحلة الماضية، يُبالغ ويُغالي بعض الطّرف الآخر في تقديس هذا المفهوم. فتخالُ أحياناً أنّ البعضَ إنّما يتحدّث عن عينٍ ثابتةٍ أزليّةٍ في الوعي الالهيّ الأعلى، أو عن نموذجٍ أصليٍّ من بين النّماذج الأصليّة التي يقوم عليها الوجود من أساسه.. أو عن “إلهٍ” مَعبودٍ تطوف حوله ملائكةٌ نورانيّةٌ تُسبّح بحمده ما بقي تحرّكُ الزّمن وتغيّرُ الأزمان.

عند هؤلاء عموماً، نكاد نكون أمام كيان مُقدّس، قائم بذاته، يميل إلى المُطلق.. فليس عليه بذلك أن يُثبتَ أيّ شيء، ولا أن يستحقّ أيّ شيء، ولا أن يكتسبَ أيّ حقّ. وهذا، بالطّبع، خطاب غير دقيق ولا واقعيّ: فالدّولة ظاهرة انسانيّة اجتماعيّة/تاريخيّة أوّلاً، بُنيت حولها مفاهيم (Concepts) أو نماذج مثاليّة (Idéal-types) مُتعدّدة من قبل الذّهن الانسانيّ[2]، ومن المفترض أن تكون لها وظائف تقوم بها ومقاصد تصل إليها. فإن لم تَقم بوظائفها الأساسيّة و/أو لم تصلْ إلى مقاصدها الجوهريّة.. فليس هناك، في المبدأ، ما يُبقيها، رغم ذلك، شرعيّة بالمطلق و/أو قائمة بذاتها ولذاتها.

خرجنا لتوّنا من عدوان اسرائيليّ كبير على لبنان، والعدوّ – باعتراف أهمّ أركان الدّولة اللّبنانيّة – لا يطبّق بنود اتّفاق ٢٧ تشرين الثّاني/نوفمبر من العام الماضي. فمن غير العقلانيّ حقيقةً محاولة فرض “حصريّة السّلاح” اليوم بتسرّع، بينما الواقع يقول إنّ العدوّ لم يزل يحتلّ ويخرق ويعتدي، بينما لم نرَ – موضوعيّاً – أنّ دولتنا، أقلّه كما هو حالها اليوم، قادرة على فرض تطبيق هذا القرار وغيره من قبل هذا العدوّ

ومن هنا، أقترح على القارئ العزيز محاولة الدّخول سويّاً في النّقاش، من خلال عرض رأيي الخاصّ، المتّفق مع كثير من اللّبنانيّين طبعاً، وذلك من باب ثلاث زوايا أساسيّة (ليست الوحيدة طبعاً):

الزّاوية الأولى، مفاهيميّة إن صحّ التّعبير: فكاتب هذه السّطور، يفترض – إن صحّ التّعبير العلميّ أيضاً – أنّ “حصريّة السّلاح” هو حقّ تكتسبُهُ الدّولة، وليس حقّاً مُطلقاً أو غير مشروط في يدها. باختصار ومع التّبسيط المدروس: إن لم تُثبت “الدّولة” أنّها قادرة، بنفسها، على حماية مواطنيها – لا سيّما من تهديد خارجيّ قَائم ورَاهن ومُتكرّر – فهذه الفرضيّة التي أؤيّدها تعتبر أنّ هذه الدّولة تفقد إذن، في المبدأ، الحقّ في “حصريّة السّلاح” بيدها. ومن الواضح عندي، وعند من يشاركني الرّأي والتّرجيح، أنّ دولتنا – للأسف – لم تستطع حتّى الآن أن تُثبت حقّها في هذه الحصريّة على أرض الواقع، خصوصاً من وجهة نظر مواطني المناطق المعنيّة بشكل رئيسيّ.

لنبقَ ضمن الاطار المفاهيميّ إذن: هذه الزّاوية تقوم على رفض اعتبار “حصريّة السّلاح”، نظريّاً وأخلاقيّاً وواقعيّاً، حقّاً قائماً في ذاته، بل هو حقّ يُكتسب بحسب هذه النّظرة. وهذا ما يجعلها ترفض الخطاب القائم على رفع شعار “حصريّة السّلاح” كأنّه حقّ مُنزل من السّماء أو قائم في ذاته كما أشرنا. وهذا ما يوصلنا إلى الفكرة الرّئيسيّة التّالية:

الزّاوية الثّانية تاريخيّة، إن صحّ التّعبير أيضاً، وفي ما يعني لبنان طبعاً: ولن أطيل حولها، لتناولِها بشكل مستفيض من قبل الوثيقة المذكورة أعلاه، ولتكرارها بشكل شبه يوميّ في الاعلام المرئيّ والمكتوب والمسموع وما إلى ذلك. باختصار أيضاً:

(١) لو أنّ دولتنا، تاريخيّا، قد قامت بواجبها فعلاً مع أهل القرى الحدوديّة – بشكل خاصّ – لما شعر هؤلاء بأنّهم مضطّرّون إلى الانخراط في حركات مقاومة مسلّحة على اختلافها، ولما صوّتوا – إلى اليوم – إلى جانب هذا الخيار وبأغلبيّتهم السّاحقة (ولما أرسلوا أولادهم إلى جبهات القتال والفداء والشّهادة..)؛

إقرأ على موقع 180  هجوم بايدن اللفظي لن يحمي.. رفح!

(٢) الواقع يقول في اعتقادي: إنّ خيار المقاومة المسلّحة هو الذي جاء بنوع من التّوازن المقبول بل المتين، خلال ما يقارب العشرين سنة أقلّه، مع هذا العدوّ. في المبدأ، لم يعرف أهل هذه القرى والمدن والبلدات، فترات توازن قوى واستقرار – وشعور بالعزّة وبالاقتدار – كما عرفوها من خلال استخدام مفهوم وطريقة المقاومة المسلّحة الموازِية. لا أعتقد، صراحةً، أنّ أهلنا في هذه المناطق قد عرفوا واقعاً كهذا وشعوراً كهذا من قبل.. من خلال الاعتماد على الدّولة وحدها، برغم عظمة وأهميّة ما قام به جيشنا اللّبنانيّ في محطّات متعدّدة. وهذا ما يوصلنا إلى الزّاوية الأخيرة واقعاً:

وهي زاوية ثالثة، عمليّة-براغماتيّة إن شئت:

(١) فمن جهة، خرجنا لتوّنا من عدوان اسرائيليّ كبير على لبنان، والعدوّ – باعتراف أهمّ أركان الدّولة اللّبنانيّة – لا يطبّق بنود اتّفاق ٢٧ تشرين الثّاني/نوفمبر من العام الماضي. فمن غير العقلانيّ حقيقةً محاولة فرض “حصريّة السّلاح” اليوم بتسرّع، بينما الواقع يقول إنّ العدوّ لم يزل يحتلّ ويخرق ويعتدي، بينما لم نرَ – موضوعيّاً – أنّ دولتنا، أقلّه كما هو حالها اليوم، قادرة على فرض تطبيق هذا القرار وغيره من قبل هذا العدوّ (وذلك بالقوّة العسكريّة أو من خلال الأدوات الأخرى).

(٢) ومن جهة ثانية، وضمن الاطار عينه واقعاً، لم نقرأ أو نسمع عن برنامج تسليح جديد وجدّي للجيش اللّبنانيّ الحبيب مثلاً: يكون من العيار الاستراتيجيّ.. ويكون من النّوع الذي نستطيع من خلاله الادّعاء بأنّ دولتنا الكريمة قد صارت – على أرض الواقع وفعلاً – قادرة اليوم على ردع هذا العدوّ في الحدّ الأدنى المقبول.

هذا باختصار ما أردت الدّخول به إلى هذا الحوار ذي الجوانب المتعدّدة، وضمن ما أشرت إليه من ضرورة الالتزام بالخطاب وبالأدوات العلميّة والموضوعيّة. وبطبيعة الحال، فهذا المقال وهذا الخطاب منفتحان – بكلّ معنى هذه الكلمة – على النّقد وعلى المناقشة، في سياق تلك الفلسفة البحثيّة والحواريّة المنشودة وتحت ظلّها.. تماماً كما هو حال الوثيقة التي ذكرتها في بداية هذه الورقة. (المصدر: “النهار“).

[1] راجع الوثيقة في موقع 180post تحت عنوان يُمثّل وجهة نظر مُعيّنة متواجدة بقوّة في البلد بطبيعة الحال: “المقاومة المسلّحة: ضرورة وطنيّة وقيمة استراتيجيّة“.

[2] ولم تنفكّ هذه التّصوّرات، بطبيعة الحال، تتفاعل مع الظّاهرة المقصودة، في كلّ حين تقريباً.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الإستشارات النيابية لتكليف رئيس الحكومة ملزمة أم غير ملزمة؟