تصدّع الإدراك الجماعي.. و تفكّك البنى الرمزية

فوكوياما أعلن نهايةً مفترضة للتاريخ، دون أن يرى أن الركام الأيديولوجي يُفرز أشكالًا جديدة من الاشتباك الرمزي. افترض اكتمال النموذج الليبرالي في لحظة كانت فيها الذات السياسية تغرق في تشظي التمثيل، والتاريخ يتحوّل إلى ملحق زمني تُديره خوارزميات التوزيع الرأسمالي. الخيال السياسي لم ينقرض، لكنه انسحب من المؤسسات وتحوّل إلى تيار تحت-سردي، يُعيد تشكيل نفسه خارج قواعد "الممكن".

هنتينغتون أحاط العالم بفواصل حادة، لكنه فشل في اكتشاف التشققات الداخلية، تلك التي لا تُرى في الخرائط. التركيبة الثقافية لا تنقسم إلى كتل، بل تتصدّع من الداخل بفعل تآكل المخزون الرمزي، وصراعات المعنى المُعلّقة بين اللغة والانتماء.

الذكاء الاصطناعي تجاوز حدود الرصد. تحوّل إلى شريك في صياغة الإدراك، في ترتيب البديهيات، في دفع الوعي الجماعي نحو أشكال محددة من الاستجابة. المنصات لا تعكس الحس العام؛ تُعيد تركيبه، وفق خوارزميات مصمّمة لتحديد الاتجاه، لا لفهمه.

وسط هذا الانهيار الخفي، جاءت الحرب الإيرانية الإسرائيلية كاختبار لتماسك الأنظمة الرمزية أكثر منها حدثًا عسكريًا تقليديًا. القاهرة، بذاكرة مترسبة من انبعاثات ناصرية، حاولت استدعاء صوت لم يعد يُشبه المرحلة. الصمت الذي راقب الحدث لم يكن حيادًا، بل عجزًا عن توليد موقع واضح في معركة تتجاوز الاصطفافات.

أنقرة التفتت إلى الداخل. لم تعد الدولة تنظر من نافذة العثمانية المستعادة، بل من شرفة الأطلسي. الرؤية الاستراتيجية متوترة بين انتماء جيوسياسي وبين خيال إسلامي يتآكل تحت شروط الشراكة الغربية. ترددها لا يصدر عن توازن، بل عن اختناق في سردية تتضارب فيها أدوات الخطاب مع اتجاه الضرورة.

الهند تقرأ المشهد بمنطق الاحتمال، لا الموقف. اهتمامها لا يُقاس بموقع الصواريخ، بل بتأثيرات الخلل على ميزان الردع الإقليمي. في الداخل، النظام الهندوسي يتعامل مع الانتماء بوصفه تقنية ضبط، لا انتماء عضويًا. السؤال المتسلل إلى المزاج الهندي يتجاوز فلسطين: من يُقرّر الوجود الرمزي في عصر التصنيف البيومتري؟

لا تخسر الدول حين تُهزم عسكريًا. الخسارة الحقيقية تبدأ عندما تتوقف عن إنتاج تأويل للحدث. عن توليد مركز للمعنى. والسؤال المُعلّق الآن لا يدور حول النصر وسرديته، بل حول جدوى اللغة في عصر تُدار فيه الانفعالات كمنتجات متبادلة

باكستان تتابع من خلف الجدار، وتفرز خطابًا مشوشًا. الموقف لا يتشكل من حدود مشتركة أو تضامن ديني، بل من ارتباك ناتج عن فقدان التماسك السردي. القدرة النووية لا تنتج نظامًا للمعنى، والخطاب الديني لم يُطوّر أدوات تحليل سياسي تتجاوز طقوس النفي.

الصين تتقدم ببطء محسوب. ترصد الانفجار على الشاشة لا في الخنادق. موقفها لا يُبنى على اصطفاف جيوسياسي، بل على هندسة التأثير في النظام الإعلامي الكوني. الكود أولًا، لا القذيفة. المعركة تُفهم من حيث هي اختبار للمنصات، لا للأراضي.

روسيا تستشعر الارتباك. تنظر إلى إيران دون شراكة عاطفية، وتُمسك بالمسافة كي لا تُستدرج إلى حقل رمزي لا تملكه. سياستها الخارجية تتحدث بلهجة الحذر، لا الحسم، لأن الصراع لا يتطابق مع خرائط الطاقة ولا مع خطوط النفوذ.

الصهيونية لا تتحرك داخل حدودها. مشروعها لا يستهدف جسد الخصم فقط، بل مخياله، لغته، صوته. تحاول تحويل الصراع إلى اضطراب إدراكي، إلى شلل رمزي يفقد معه الخصم القدرة على خلق سردية من داخله.

في غزة، طهران، والجنوب اللبناني، لا نرى فقط مقاومة مسلّحة، بل فعلاً تأويليًا يُخرج الجماعة من صمتها. اللغة التي تُقال في المعركة لا تعلن فقط موقفًا؛ تُعيد بناء النحو السياسي من أنقاض الاستعمار الإدراكي. الخطاب الصاعد لا يتوسل الشرعية، ولا يتخذ موقفًا دفاعيًا؛ يُنتج مفرداته من الاحتكاك، من القطيعة، من استدعاء الجذور كأفق.

المقاومة لا تُبرّر نفسها. تعمل. تُفكّك. تخلق رموزها على إيقاع التهديد. ليست حدثًا عسكريًا بل نسقًا وجوديًا يُعيد تشكيل الزمن.

في هذا السياق، لا تخسر الدول حين تُهزم عسكريًا. الخسارة الحقيقية تبدأ عندما تتوقف عن إنتاج تأويل للحدث. عن توليد مركز للمعنى. والسؤال المُعلّق الآن لا يدور حول النصر وسرديته، بل حول جدوى اللغة في عصر تُدار فيه الانفعالات كمنتجات متبادلة.

هل ما زالت هناك ذات تُنتج صوتها خارج الترجمة؟ وهل ما زال في الحطام ما يصلح لبناء إدراك جديد؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  هنا بيروت.. بلا فرح، بلا فصول
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا!